لا شك في أن أي حادث فردي ذي طابع أمني أو عسكري من شأنه أن يتأجج طائفيا وعشائريا خصوصا في منطقة تشهد صراعات حول تبعية منطقة حدودية. ويساهم القضاء اللبناني، الذي فشل مرارا في تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة، في عدم تأسيس سلام دائم في المنطقة. بيروت - خلال عطلة نهاية الأسبوع، قُتل رجلان من بلدة بشري في منطقة قرنة السوداء اللبنانية بالرصاص مع القليل من الفهم للسبب، وهما هيثم طوق، في الثمانية والثلاثين، ومالك طوق، في الخمسينات من عمره. واندلع الغضب في البلدة التي حزنت على فقدان مواطنيها. ولا تزال التطورات تتكشف والشائعات حول سبب حدوثها تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتقول التقارير إن القتلة جاؤوا من منطقة الضنية. وانتشر الجيش اللبناني في المنطقة لاستعادة النظام والهدوء. ولكن إلى متى يمكن للجيش أن يحافظ على السلام إذا فشل القضاء في اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة؟ وهناك جهد مشترك من قبل القوات المسلحة اللبنانية ومن هم في موقع السلطة للتخفيف من المزيد من الضرر المحتمل الناتج عن عمليات القتل هذه. وقال المكتب الإعلامي لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إنه سيتم اتخاذ إجراءات للقبض على الجناة. وأضاف "ندين هذا الحادث وسيتم اعتقال المسؤولين عنه حتى تتحقق العدالة". وتواصلت عضو مجلس النواب عن القوات اللبنانية (النائب) ستريدا جعجع، ممثلة دائرة بشري، مع قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون، لبحث الوضع وأفضل السبل لتحقيق العدالة لأسر الضحايا والحفاظ على السلام. وأصدرت جعجع وزميلها النائب ويليام طوق الذي يمثل نفس البلدية بيان إدانة مشتركا، وطالبا بالتدخل القضائي والعسكري. وجاء في البيان “اتصلت بقائد الجيش وطلبت منه إرسال قوة في أسرع وقت ممكن إلى المنطقة التي وقعت فيها الجريمة لإجراء جميع التحقيقات اللازمة”. وحتى الآن يعمل الجيش اللبناني بشكل جيد للغاية مع الدعم المحلي. ومع ذلك، فإن الشاغل الأكبر لسكان البلدة هو أن الجناة قد يهربون دون رؤية لحظة في المحكمة. ومهما يكن فإن هذا الذعر له ما يبرره. وفشل القضاء اللبناني مرات لا تحصى في أداء دوره كحكم مستقل للقانون، مما سمح للمجرمين من جميع الأنواع بالرحيل. ويستمر الافتقار إلى العدالة وانعدام القانون في جميع أنحاء لبنان مع استثناءات قليلة. ومع ذلك، هناك خوف آخر من أن هذه الجولة من العنف لن تؤدي إلا إلى المزيد من عدم الثقة بين الطوائف الدينية المختلفة وتعميق الشكوك الطائفية. ريتشارد قيومجيان: العنف لا يمكن أن يكون أداة مشروعة لإنهاء هذه المشكلة.. استخدام السلاح ليس هو الحل ريتشارد قيومجيان: العنف لا يمكن أن يكون أداة مشروعة لإنهاء هذه المشكلة.. استخدام السلاح ليس هو الحل وسرعان ما خرج الزعماء الدينيون للتعبير عن إدانتهم وأضافوا أن هذا العمل المروع لا ينبغي أن ينظر إليه من منظور طائفي. وأصدر مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام ورئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية المطران يوسف سويف بيانا طالبا فيه سكان المدينتين بالتجاوب بحب الوطن وإعطاء السلطات وقتا للعمل. ودعوا "شعبنا الأعزاء في المنطقتين إلى التعامل مع هذه المأساة بوعي روحي وإنساني، وبإحساس عال بالمسؤولية الوطنية، انطلاقا من الثقة الكاملة بالجيش اللبناني والقوى الأمنية والقضاء المختص". وتعود جذور هذه المشكلة إلى نزاع على الأرض بين المدينتين. وتقع بشري ودنيا جغرافيا في منطقة جبلية حيث تدور خلافات حول حقوق الملكية والمياه، خاصة بعد أن يبدأ الثلج في الذوبان. وتجنّبا لتطوّر الخلافات المستمرة فصولا منذ سنوات، تشكلت لجنة قضائية عقارية من أجل مسح العقارات وتحديد حدود المشاعات بين بشري وبقاع صفرين، ولكن أحوال الدولة المهترئة في السنوات الأخيرة، والظروف الصعبة التي توالت مع انتشار كورونا وحصول الانهيار حالت دون توصل اللجنة إلى النتيجة المرجوّة، واستمرت المشاحنات ولكنها لم تصل إلى حدود القتل في السابق. وتحدث وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق د.ريتشارد قيومجيان حول النزاع القديم على الأرض وما هو الإجراء الذي يجب اتخاذه بخصوص القتلة. وقال قيومجيان "إنه صراع مزمن. لقد كان هناك منذ سنوات عديدة. كل عام بعد توقف تساقط الثلوج، هناك صراعات على المياه بين المنطقتين. يحدث أن أحدهما مسلم سني والآخر مسيحي. لكنه نزاع على ملكية منطقة تسمى قرنة السوداء، حيث يوجد الكثير من المياه ويريد الجميع الاستفادة منها". وأضاف أن "العنف لا يمكن أن يكون أداة مشروعة لإنهاء هذه المشكلة… استخدام السلاح والنزاع المسلح ليس هو الحل". وتقول كلتا المدينتين إن موارد المياه ملك لهما، وإلى أن يتم التحكيم في هذا الأمر يجب أن يكون بشكل مستقل من قبل القاضي المحلي وبدعم من الحكومة، فيما يرجح محللون أن تستمر التوترات في التصاعد مع ارتفاع خطر حدوث المزيد من العنف. وقال قيومجيان "بالتأكيد، يجب تقديم المجرمين إلى العدالة، حتى يرقد الضحايا بسلام، وأيضا لإثبات أن هناك شكلا من أشكال الحكم باق في لبنان". وأثارت هذه التطورات الدراماتيكية ردودا واسعة أجمعت على ضرورة التكاتف في مواجهة أي محاولات للإيقاع بين أبناء المنطقة الواحدة. ◙ وجود الجيش هو ضامن الاستقرار في المنطقة. ولكن إذا فشلت المحاكم في حل النزاع، فهل يمكن ضمان السلام الدائم حقا؟ وقال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي "آلمتنا للغاية حادثة قرنة السوداء التي راح ضحيتها اثنان من بلدة بشري العزيزة من أسرة آل طوق الكرام وهما المرحومان هيثم ومالك. إننا نقدم تعازينا الحارة لعائلتي الضحيتين، ونلتمس من الله لهما الراحة الأبدية. ونعول على الجيش في فرض الأمن لصالح الجميع، وعلى أهالي بشري في ضبط النفس، ووضع الخلاف المزمن في منطقة قرنة السوداء في عهدة القضاء". وفي مجمل الأحوال فإن تدفق الدعوات من كل الاتجاهات الشمالية واللبنانية، ومن جميع المراجع الدينية خصوصا، لتجنب فخ الفتنة التي قد يكون أريد لأبناء بشري أن يتواجهوا دمويا، أثبت عمق الشكوك والمخاوف التي اجتاحت البلاد جراء هذه الجريمة المزدوجة. كما أن العامل الثابت الآخر المثير لشتى أنواع المخاوف تمثل في تكرار انكشاف القصور والعجز والإهمال المزمن التاريخي للدولة ووزارتها المعنية المترهلة في حل الخلاف المقيم القديم بين المنطقتين على الحدود المائية لكل منهما، بحيث بات هذا الواقع بمثابة تحريض مستدام على الفتن من الدولة العاجزة القاصرة لأبناء المناطق التي تعاني من خلافات مماثلة. ولعل المشهد الذي سيبرز اليوم في بشري في وداع ابني المدينة الضحيتين يشكل الصفعة اللازمة لدولة صارت المسبب الأول للفتن وترك مستثمري الدماء يتلطون وراء النزاعات المائية والجغرافية والعقارية بين المناطق. وينتظر الجميع الآن ما سيحدث بعد ذلك. وفي الوقت الحالي فإن وجود الجيش هو ضامن الاستقرار في المنطقة. ولكن إذا لم يتم تكريم القتلى وفشلت المحاكم في حل هذا النزاع، فهل يمكن ضمان السلام الدائم حقا؟
مشاركة :