أقنعة ماهرة تحيط ببيان مبتذل في 'العدو'

  • 7/17/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يقدم الروائي صنع الله إبراهيم ترجمته لرواية "العدو" للروائي والمسرحي الأميركي جيمس دورت بدراسة مهمة تستعرض تطورات علاقة الرواية الأمريكية بالمجتمع وما يصيبه من تغيرات طالت مختلف جوانب الحياة الإنسانية، وأدت أطاحت بالكثير من قيم الحرية الإجتماعية والفكرية والثقافية والجمالية، وكيف استطاعت هذه الرواية مواجهة كل ذلك وفضح حالة التردي والعبودية والانهيار عبر أحداثها وأبطالها من الغاضبين والمأزومين والمرعوبين من المكارثية والمضطربين، وذلك انطلاقا من الثلاثينيات وحتى أواخر الستينيات من القرن العشرين.. ويقول صنع الله في دراسته التي قدم بها ترجمته لرواية "العدو" الصادرة عن مؤسسة هنداوي وقسمها إلى ثلاثة نقاط وقد وصل إلى المؤلف "وسط هذه المجموعة من الكُتَّاب الشبان التي ظهرت في الستينيات في أميركا، والتي تمثل منحنًى جديدًا لأدب الغضب، يبرُز جيمس دروت، طائرًا متميزًا، وصوتًا فريدًا يتميز بنقاءٍ غير عادي، ففي أسلوبٍ بالغ الصفاء، ورمزية رقيقة، يُصوِّب دروت جهدَه إلى ما يحدث من حوله.. إنه لا ينظر إلى داخله إلا بالقدْر الذي تتطلبه مواجهة الأمواج التي تتلاطم من حوله.وفي قوة وجمال، وفي الشكل الذي ارتاده من قبلُ سالينجر وكارسون ماكيلز وترومان كابوت، وهو الرواية القصيرة العصبية المحكَمة، تتابعت صرخات الغاضب الشاب حتى بلغت ـ في أربع سنوات ـ سبعًا أصبح بعدها بلا جدالٍ معبودَ الغاضبين ونبيَّهم الجديد. ويضيف "لعل أصدق وصفٍ لتكنيك دروت هو ذلك الذي جاء على لسان روبي روي في رواية "العدُو"، وهو يصف مبانيَ لويس سوليفان المعماري العظيم في أوائل القرن "وجدت أن سوليفان لم يكن غامضًا أو موحيًا؛ فقد كان يعرف ما يريد، وفَعَله، ولم يكن في حاجةٍ إلى مترجِم ليفسر أعماله؛ لأن كلَّ ما كانه وآمن به، وأكثر من ذلك، كان يبدو في عمله، لم يكن هناك سِرٌّ، ولم يكن الأمر شاقًّا، ولم تكن هناك أقنعة ماهرة تحيط ببيان مبتذل بل إن جبروت ما قاله سوليفان في جلاءٍ هو ما جعل رجال السلطة والذوق في عصره ينصرفون عن عمله". فهذا هو الطابَع المميز لأدب جيمس دروت. ونجد أبطاله في البداية يستكشفون ما يحدث حولهم، وما حدث من قبل؛ ففي روايته "أمريكا في الخمسينيات"1962م، كان "دونر" نموذجًا للشاب الأمريكي القوي؛ فهو بطلٌ من أبطال كرة القدم، يضحك طول الوقت، ولكنها ضحكة مريضة بسبب نَدبة في ركنِ فمه، ويسيطر الجنس على ذهنه. وهناك راوية يتحدث عنه، وكان زميلًا له في المدرسة العليا بريفر سيد، بولاية إيلينوي، ولاحظوا المكان لأنه الذي تجيء به معظم روايات دروت.يقول الراوية "في الخمسينياتكان كلُّ الرجال الأقوياء الممتازين مثل دونر يختبئون في كهفٍ ما، سواء كان عنوانه الله أمِ المرأة، ولم يكن هناك ما يمكن لشخصٍ مثلي أن يفعله بهذا الشأن سوى أن يرقب أبطاله يتهاوون ويكرههم لهذا"، ثم يعلِّق على انهيار دونر بقوله "وعلى كلٍّ، فإن البلاد كلها كانت تنطلق في دربٍ أعمى في الخمسينيات، وبدا لي أن مشكلات دونر تتفق تمامًا والعصر. فقد كان السناتور مكارثي سيد الميدان، يجرُّ الناس أمام لجنة التحقيق التي شكَّلها ويتهمهم بالخيانة"، ثم يشرح موقف البسطاء من الناس من أمثال الراوية "أما أمثالي من الناسفلم تكن لديهم أدنى فكرةٍ عما يجدُر بهم عمله؛ لقد فوجئنا في البداية، وتساءلنا عما حدث لأبطالنا المعبودين، وعندما رأينا كم كانوا مرعوبين كرهناهم لذلك. ولكننا لم نفعل شيئًا، وكانت البلاد كلها ـ وليس فقط فريق الكرة في كلية كنوكس ـ تتمزق وتنهار". ويتابع صنع الله "كانت الرواية التالية "جسد ميت في برتونفيل" قصيرةً أيضًا، وتدور أحداثها في بلدة صغيرة، على مقربة من شيكاغو. يحكي لنا كيف يعجز سكان المدينة عن تنظيمها وإتاحة المجال للجمال فيها، وكيف يتآمرون على الحقيقة كي لا يهتز إيمانهم بأنفسهم.. رغم أن هذه البلدة بالذات خرج منها إبراهام لنكولن ذات يوم."وجدت شيئًا واحدًا في اجتماعِ لجنة التخطيط، فلم يَعُد الناس يفكرون في العمل معًا كما كانوا يفعلون من قبل.. وبشعور غامض بالهزيمة، لا يفكِّرون الآن إلا في أنفسهم". ولم يَعُد يعنيهم شأن الجمال أو التناسق. ولا عجب "أن الأطفال في فصل الفنون في المدرسة كانوا يضحكون من مُدرِّسهم عندما يحدِّثهم عن الجَمال والتعبير والتناسب، بينما كانت نفس الفرقة التي يتحدث فيها المدرِّس تصرخ بالقبح من كل ركن"المكان الوحيد الجميل في برتونفيل هو قصرٌ صمَّمه المعماري الشهير سوليفان في عام 1900م وابتاعه أحد أغنياء البلدة وانتوى هدمَه ليقيم مكانه تمثالًا لنفسه (وموضوع العمارة سيعود إليه دروت باستفاضة في "العدو".. ويرى أن جيمس في روايته "الفراشات الغجرية" (1964) يصبح الراوية أحد ثلاثة أبطال في الرواية يواجهون الموتَ عن عمدٍ بممارسة لعبة القفز بالمظلات من الطائرات، "فكل شخص يجب أن يلتقي بالموت". وبالقرب من نهاية الرواية يصبح الراوية هو الصوت الرئيسي.. لقد اكتشف شيئين محدَّدين "ليس هناك شرف أو مجد في الموت".."وأدركت الأمر، أجل، هذا هو السبب في أنني أقفز؛ لأنه من الممكن تجنُّب الحياة بمواجهة الموت. إنني أخشى الحياةَ أكثر مما أخشى الموت؛ لهذا أقفز.. الموت ليس امتحان الرجل.. حياته هي الامتحان الوحيد الذي سيواجهه".."عندما تقفز فإنك وحيدٌ"، ثم يهتف في النهاية "لا أريد أن أتجنَّب الحياة بعد الآن". وتتركه الرواية في الطريق إلى محطة القطار مع فتاته.ولكن الراوية يكشف شيئًا آخر.. مسئوليته"لقد راقبت الأمر كلَّه يحدث. كنت الوحيد الذي لم يقل شيئًا.. ليس بوسعي بعدُ أن أقول إن الأمر لم يكن يعذبني". وهكذا انفصل بطل دروت تمامًا عن طريق البيتنيكيين الأوائلالذين شبَّههم في هذه الرواية بفَراشات تدور حول المصباح الكهربائي حتى تحترق بضوئه الصناعي. وسرعان ما امتزج الراوية بالبطل بالكاتب نفسه في آخرِ روايات دروت وأقواها على الإطلاق.."العدو". ويوضح صنع الله بطل رواية "العدو" روبي روي أوريللي، يبدأ حكايته المأساوية بهذه العبارة ذات الدلالة: "أدركت منذ طفولتي المبكرة قُبحَ كلِّ ما يحيط بي من صنْع الإنسان". وسرعان ما يستبعد ـ في رحلة البحث عن العلة التي يقوم بها ـ أبويه والمدرسة والدِّين.. بل وكل ممثلي العصر البارزين الذين حاولوا الإجابة من قبل ـ هيمنعواي وفيتزجرالد وإليوت وأونيل وبروست ـ ويرفض أن يردِّد كل ما يُلقَّن له قبل أن يمحِّصه جيدًا، ويبحث عن الإجابة في الكتب وفي داخل نفسه.. ويجدها بعد أن يكون قد استقر في موقف المعارضة.. والإجابة هي البناء، الفعل.ويصبح موضوع العمارة الذي طرقه دروت من قبلُ في رفقٍ هو الموضوع الأساسي لهذه الرواية. والواقع أن المنزل عند دروت أصبح رمزًا للمؤسسة البشرية، للوجود الإنساني، وأصبحت العمارة رمزًا للمشاركة الإيجابية. إن المنازل جميعها مشوَّهة؛ شُيِّدت بصورة خاطئة، فلماذا لا تُشيَّد بصورةٍ جميلة تجعل الحياة بهيجة؟.. خلفَ كلِّ شكل قبيح فكرةٌ ملتوية أو أكذوبة.. وخلفَ كلِّ بناء مجنون عقلٌ مجنون.. والمدينة أصبحت آلةً لِسَجن الإنسانية في الإنسان وهي تغذي فيه كلَّ ما هو شرير وحيواني.."أغلب ما هو قائم يجب هدمُه وإحلال غيره مكانه". هذه هي الرسالة التي اختارها روبي روي أوريللي وقد اتخذ البناء مهنة له. ويرى صنع الله أن قوة رواية "العدو" تكمُن في أنها يمكن أن تُقرأ على عدة مستويات.. فهي للوهلة الأولى قصة شاب موهوب في فن العمارة، يبتكر تكنيكًا جديدًا في العمارة يقوم على الحركة، ثم يلاقي الفشل بسبب عدم تقبُّل الجماهير لفكرته الجديدة. وفي خلفية هذه الحكاية نقرأ القصة الممتعة لعملاقي العمارة في أميركا: راتب وسوليفان، وهي للوهلة الثانية دراسة دقيقة لعملية الإبداع الفني في أي مجال ولموقف الفنان من إبداعه؛ فأوريللي عندما يتحدَّث عن مَولد أحد تصميماته لن يختلف عن دروت لو تحدَّث عن مولد رواية له وما يواكبها من حيرة وتمزُّق وعدم ثقة، بل إن الصورة التي أخذتها معاناة أوريللي"إنني أُسرع دائمًا خوفًا من أن تتضح خطاي"، تذكِّرنا بجورج سيمنون الذي يغلق الباب على نفسه أسبوعين كاملين يعمل فيهما بصورةٍ متصلة حتى ينتهي من إحدى رواياته، وهي دائمًا في هذا الشكل القصير العصبي الذي يستخدمه دروت.. ويضع أوريللي مواصفات الفنان الحق كما يراه: لا بد وأن يخلق عربتَه الخاصة إذا كان يريد أن ينطلق بحرية في المستقبل الذي يحلُم به. ويقدِّم علاجًا لمشكلات الفنان في مجتمعٍ كالمجتمع الأمريكي: لا بد وأن يتحكَّم في عمله بداءةً وخلقًا وتمويلًا؛ بل وفي السوق أيضًا كي يصبح حرًّا وينجو من التأثيرات المختلفة. وهناك المصير التقليدي الذي يواجهه الفنان العبقريفي كل عصر.. الرفض ثم القبول فيما بعدُ.. وذلك أن الشكل الذي يبتدعه هذا الفنان ينحِّي كلَّ الأشكال الأخرى جانبًا، ويتساءل الناس: لماذا كانوا قانعين من قبلُ بما هو أقلُّ من هذا؟ ويدفعهم الخوف والرعب إلى إنكار الفنان الجديد وعمله. ويقول "عندما نتجاوز هذين البُعدين إلى بُعدٍ ثالث، نجد أنفسنا أمام تحليلٍ لمأساة المجتمع الأميركي المعاصر الذي يصفه البطل بأنه مجتمعٌ من الدرجة الثالثة ذو حضارة منهارة.. مجتمع رأسمالي بالتحديد.."كانت بلادي تزداد قُبحًا على قُبح وهي تنتقل من أيدي مستغِل إلى آخر"، "هذا التحوُّل العنيف المَرضي نحو الوحشية والقُبح.. وتُساق جموع الشباب عاجزة دون أملٍ في الثورة.. شعب بأكمله ينهار.. بواسطة نظامٍ فاسد لا يعبأ بغير المال ويستغل الجميعَ لصالحِ قلَّة كانت تمنح الجماهير حَفنة من المِنَح مثلما تعطي للنادل بحكم العادة. كان النظام يدافع عن نفسه مستشهِدًا بكفاءته في مبادلة موادَّ لا قيمة لها بموادَّ أخرى عديمةِ القيمة.. كأنما هو أخطبوط مجنون، يحث الناس، عن طريق الإعلان المستمر، أن يبيعوا وقتهم.. مقابل شيء لا يحتاجون إليه.. ثم يجعلهم يوقِّعون على كمبيالةٍ تجبرهم على العمل لمدة من الأعوام يُنتِجون فيها منتجات أخرى غير مُجدية، تُباع بدورها بالنسبة لآخرين مثلهم. وعندما تقتفي أثرَ المال من جيبٍ لآخر تجده يصبُّ في النهاية في أيدي قلةٍ من الممولين. وفي هذه الأثناء تبتاع الحكومة القذائف والقنابل والبنادق التي لا تمرُّ سنوات قلائل حتى تعلن عدم صلاحيتها ثم تُستبدل بالمزيد منها.. وعندما واجه النظام المتاعبَ ولم يجِد عملًا لبعض أولئك الذين ارتهنوا جانبًا كبيرًا من حياتهم لديه مقابل منتجاته العديمة القيمة، عندئذٍ تحوَّل الرجال الذين يقفون خلفه إلى الحكومة يولولون؛ فضاعفت مشترياتها من المواد الحربية، وغرقت في المزيدِ من الديون، ثم زادت الضرائب العامة لتجدَ ما تسدِّد به الديون التي قدَّمتها البنوك، التي يملكها نفس الباكين الذين يملكون بالمثل النظام ويديرون، وهكذا يدور المال في نفس الحلْقة، وغرِق الناس في مزيد من الديون، وازدادت قلةٌ منهم ثراءً على ثراء وقوةً على قوة.. وخلقت الصحف فزعًا من الحرب حتى لا يعترض الجمهور على تخصيص الدخول المستقبَلة للاتفاق على أسلحةٍ ستُبلى من قبلِ أن يُسدَّد ثمنها بوقت طويل". ويؤكد صنع الله أن هذا جانب من مأساةِ أميركا، أما الجانب الآخر فهو موقف أهلها.."العبيد" كما يسميهم أوريللي أو "الخنازير"  كما تلقِّبهم فتاته، يقول أوريللي في نهاية حكايته "في بلادي، خلال القرن العشرين، فإن المأساة هي العمل الذي يعجز الرجال العظماء عن إنجازه"..".. كان جهدي الأول موجهًا إلى الحياة العائلية. فقد حاولت أن أجلب الجمال إلى الأفراد من مواطني. وكما تعلمون فإن عملي قد رُفض. وكان جهدي الثاني.. يتيح التعاون والحياة الأفضل.. بديلٍ متنور للمدن الحقيرة المتنافسة الحيوانية التي تُقيد حرية المعاصرين لي وهذا أيضًا قوبل بالرفض.. وكان جهدي الثالث ممكنًا لو كانت هناك استجابة للجهدين الأولين. وكان يجب أن يرمي إلى إعادة تشكيل بلادي بعد أن تتحد قدراتي مع الآخرين من أمثالي، ويكون هدفنا هو خلق بنيان يمثِّل المواقف القومية الحرة والأمينة والطيبة التي يُعبِّر عنها السكان. ولكن.. العيب ليس فيَّ وإنما في حضارتي ومجتمعي، فأنا قادر وراغب، ولكنكم لستم كذلك".

مشاركة :