'مذكرات رئيس عمال سابق بقناة السويس' الكذب بلون الحقيقة

  • 7/23/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

رغم العنوان الخادع، "مذكرات رئيس عمال سابق بقناة السويس"، فهذا الكتاب الذي كتب عام 1876 ليس مذكرات لشخصية حقيقية، ولكنه رواية ذات طبيعة خاصة، كتبها اثنان احترفا الكتابة المشتركة هما الكاتبان الفرنسيان إميل إركمان، وألكساندر شاتريان اللذين أصدرا رواياتهما المشتركة في الفترة من 1847 إلى 1887، الأول ولد في 12 مايو/أيار 1822 وتوفي في لونفيل 1899، وولد الثاني في 18 ديسمبر/كانون الأول 1826 وتوفي عام 1890 في فيلومنبل. الروايات التي اشتركا في تأليفها كانت ذات طابع وطني استوحيا موضوعاتها من تاريخ فرنسا، روايات تفيض حماسة وتزخر بالمآثر والبطولات، منها على سبيل المثال "حرب واترلو" التي طبع منها حتى وقت صدور هذه "المذكرات" ست وعشرين طبعة، و"حكاية شاب مجند عام 1813"وقد نشرت في سبع وثلاثين طبعة. وقد اعتمد المترجمان د.مها السجيني ود.أشرف حسن في ترجمتهما لهذه الرواية على الطبعة الخامسة الصادرة عام 1877 عن دار "هتزيل". ومع ذلك كما يقول المترجم أشرف حسن، فإن أحداث الرواية تستند في معظمها على شهادة حقيقية: ففي صيف عام 1871 تعرف إميل إركمان في باريس على مقاول أشغال عامة، عمل لفترة طويلة في بناء قناة السويس، اسمه مونتيزوما جوجيل، توطدت الصداقة بين الرجلين وقاما بعدها برحلة إلى مصر وشرق المتوسط.. زارا فيها أطلال اليونان، ثم الإسكندرية، القاهرة، الجيزة. وكانا قد استقلا باخرة صغيرة تأخذهما من أحد طرفي قناة السويس إلى الطرف الآخر، حيث توقفا في مواقع حفر القناة التي عمل بها جوجيل، ثم زارا يافا وبيروت وطرابلس ورودس والقسطنطينية وكورفو، ثم روما وجييوة وساحة معركة مارينغو.. كان جوجيل يتمتع بخبرة كبيرة في بلاد الشرق، مصر بصفة خاصة، وأعرافه، ودينه، ولغته. أما إركمان فكان أكثر دراية بتاريخ الحضارات القديمة. وطوال الرحلة راحا يتبادلان الملاحظات. وهكذا عاد إركمان من مصر إلى باريس، وقد جمع مادته العلمية الأولى للكتاب، ليعود برحلة أخرى مع رفيقه ألكساندر شاتريان. ويضيف في ذلك الحين كان الكاتبان إركمان - شاتريان ذائعي الصيت ومن أكثر الكتاب مقروئية في فرنسا رغم أنهما لا يمثلان قامة روائية كبيرة، مثل فلوبير أو شاتوبريان وغيرهما ممن زاروا مصر، إلا أن "المذكرات" صادفت نجاحًا كبيرًا، بل ربما يحق لنا الظن أن الحكومة الفرنسية لم توجه الدعوة لكاتب كبير خوفًا أن يفضح قلمه استغلال فرنسا وقسوتها، فاستعانت الآلة الإعلامية الفرنسية بصاحبينا لتظهر لا لقراء فرنسا الإمبريالية وحدها، بل لكل أوروبا عبقرية المشروع وإسهام "فرنسا الحرة" في تطور البشرية وفي سلام العالم. ويوضح أشرف حسن "تميز الكاتبان بنزوع نحو الكتابة الملحمية، وكان في أعمالهما نوع من الواقعية الريفية، خاصة في الحكايات الشعبية لفلاحي الإلزاس التي تأثرت بما سمي حينها بتيار "حكايات الغابة السوداء" ويتجلى ذلك بصفة خاصة في "حكاية شعبية من غابة فوج"، و"حكايات من الجبل" وأيضا في آخر عمل كتبه إركمان بعد وفاة صاحبه ورفيق دربه ألكساندر شاتريان "حكايات من الزمن الماضي عن سكان الإلزاس وفوج". كما أنهما كتبا العديد من المسرحيات التي صادفت نجاحًا كبيرًا. وتحول كثير من أعمالهما إلى أفلام وأعمال درامية قُدمت على شاشة التلفزيون والسينما والإذاعات الفرنسية. الجدير بالذكر أنك ستجد متحفًا لهما في مدينة فالسبورج، وما زالت هناك جائزة أدبية سنوية تحمل اسميهما حتى يومنا هذا. ويشير إلى أن الروائي الشهير إميل زولا في نقده لعالَم هذين الكاتبين كتب في 29 أبريل/نيسان عام 1866 في مجلة "تحية الجماهير" دراسة نقدية طويلة بعنوان "إركمان – شاتريان" لخص فيها عالمهما بقوله: "إن عالم "إركمان –شاتريان" عالم بسيط وساذج، واقعي إلى حد الهوس بالتفاصيل، ومضلل إلى حد التفاؤل. لكن ما يميزه أنه يقدم الحقيقة الكبري بتفاصيلها الجسدية والمادية البحتة، جنبًا إلى جنب مع الأكاذيب الأبدية عند رسم نفوس الأبطال، أبطال يرقق الكاتبان من طباعها ويسموان بأخلاقها بشكل منهجي". وهذا الكتاب/ الرواية "مذكرات رئيس عمال سابق بقناة السويس"، هو واحد من سلسلة كتب عن قناة السويس، يعمل المترجمان السجيني وحسن على ترجمتها للقارئ العربي تحت عنوان "ذاكرة القناة" "فقد كنا وما زلنا نطمح أن توثق السلسلة لتاريخ القناة، منها بالطبع الكتب التاريخية والوثائقية ومنها الروايات والنصوص الأدبية، وقد ارتأينا أن نبدأ بهذا النص بحكم أن النص الروائي ما زال يمارس سطوته على الساحة الثقافية، ويستقطب المتخصص وغير المتخصص، ونطمع بكل تأكيد في جذب أكبر عدد ممكن من القراء". ويؤكد المترجم أن الكاتبان بالفعل جاء إلى مصر فعاينا وشاهدا وقابلا بعضًا من موظفي المشروع فسجلا لنا تلك الشهادة الروائية. وقد بحثا عن خيط روائي فوجدا ضالتهما في فكرة الفتاة اليتيمة المسكينة التي تصبح بين عشية وضحاها صاحبة ثروة هائلة. ويلفت المترجم إلى أن القارئ سيصدم بفكرة الكاتبين المسبقة عن الشرق، وهي نفس الفكرة التي روج لها الاستشراق عن المصريين أو "العرب" وكذلك عن الدين الإسلامي والمسلمين، فالحديث عن انتقاص العرب لقدر المرأة وتخلف الشرق وغباء وقسوة تعاليم الإسلام، كلها كليشيهات كانت تلاقي عند الفرنسيين ولعا شديدا، فما كان من النص سوى إعادة إنتاج تلك الأكاذيب التي يرغب القراء في سماعها. ومن ثم فإن الكتاب ليس محايدًا في حديثه عن أعمال حفر القناة نفسها، فهو يكيل المديح لديليسبس إلى درجة جعلت من الرجل شخصية مقدسة كقداسة البابا، إنه الأب الروحي للمشروع الذي استغرق عشر سنوات، ولا يهم أن ذلك المشروع ـ الإنساني العظيم ـ قد عمل فيه مليون مصري بالسخرة، مات منهم تحت ظروف العمل القاسية مئة ألف، في وقت كان تعداد مصر يقارب الخمسة ملايين نسمة. لكن الكتاب تجاهل كل ذلك، وسطّر الراوي على لسان ديلسيبس تلك المقولة الداعرة "إن أميركا لليانكيز ولكن سيظل مكتشفها كولومبوس، والقناة حتى لو كانت للمصريين ستظل ملكا لفرنسا"، فأي افتراء وأي تدليس! ويوضح أشرف حسن "ليس هدفنا من ترجمة الكتاب التعرض لموضوع الاستشراق بين الحقيقة والافتراء، فما أكثر الكتابات حول الاستشراق والمستشرقين، كذلك ليس هدفنا أن نكتشف كيف كان "الآخر" يرانا، فنحن لا نهتم بصورتنا أمام ذلك الآخر الذي يعيث في ربوع وطننا العربي فسادًا، ولم يتورع عن استنزاف ثرواتنا واحتلالنا لقرنين من الزمان تقريبًا، ولكننا نقدم هذا الكتاب حتى لا ننسى أن القناة ـ رغم أنف الكاتبين ـ حُفرت بسواعد مصرية، وأموال مصرية، ودماء مصرية، وإن قال الفرنسيون نقيض ذلك. ويتابع "خُلقتْ الحقيقة لكي تعرف.. فالحقيقة تتمرد على أكاذيب صاحبها وتتسرب رغما عن النص في تفاصيل لا تخفى على القارئ العادي، تشهد بفداحة الثمن الذي دفعه المصريون في حفرها، والظلم والجور اللذان تعرضوا له. سوف نرى السخرة في أبشع صورها حين يقف الأغا التركي والعمدة ليلهبا بالسياط ظهر شاب مصري مسكين ضاعت منه قفته، أو آخر تلكأ في أعمال الحفر، وسوف نرى الكوليرا وهي تحصد العمال حصدًا فلا يفرون من الموت بل يستسلمون لقضاء الله. وسوف نقرأ كيف كان طعام العمال مجرد لقمة خبز وبصلة وشربة ماء، وكيف أن الشركة لم توفر لهم مسكنًا كالأوروبيين، فكانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. النهار عمل قاس في ظروف غير إنسانية لثمانية عشرة ساعة، فحين تنقص القفف يحمل العمال الطمي فوق ظهورهم العارية، وعندما يجف من حرارة الشمس يكشطونه عن ظهر المساكين كشطا، وحين يهرع العمال للصلاة يعتبر الفرنسيون ذلك تفننًا في إضاعة الوقت، ولايفهمون تلك الشعيرة الإسلامية فيعتبرها النص "فانتازيا" أي ألعاب فروسية. أما المساء فغُربة قاتلة، غربة لا تنتهي، ومع ذلك يقاومون بالغناء غربتهم وتعبهم والبرد الذي يبري أطرافهم، غناء يشبه الأنين يكاد ينفطر له قلب نجوم السماء. أما العمال الأوروبيون فكان من نصيبهم الإسماعيلية "باريس الصغرى" حيث العروض المسرحية والغنائية التي تقدمها لهم غانيات في ميعة الصبا، وممثلات محترفات، هذا غير المطاعم والمنتزهات ونوادي القمار. ويشير "نرى أيضا الظلم البين لفرنسا "الحرة" التي تحصلت على غرامة مئة وعشرين مليونًا من الخديوي إسماعيل لمجرد أن الرجل سحب المصريين العاملين بالسخرة من الشركة ليعملوا في زراعة القطن. وسوف يضحك القارئ بالطبع من سذاجة الحجج الواهية التي تجعل الكاتبين يقلبان الباطل حقاً فيتحدثان عن عظمة فرنسا، ورقة قلب ديليسبس التي تبرر السخرة من أجل مشروع نبيل، بل يتهمان نوبار باشا برشوة الصحفيين الأوروبيين حين كتب الشرفاء منهم يهاجمون السخرة والقتل المتعمد لآلاف المصريين الذي تقوم به الشركة يوميًا بشكل ممنهج وبدم بارد. ويؤكد "نعم خلقت الحقيقة لكي تعرف.. فلم نتدخل بالتعليق على تلك الافتراءات وتركنا الحكم للقارئ.. اليوم تقف القناة شاهدة لا كما يدعي الكتاب على عظمة فرنسا، بل على عظمة المصريين، ولكننا نتساءل أليس من حقنا الآن المطالبة بتعويض من حكومتي فرنسا وإنجلترا على أرواح مئة ألف عامل مصري؟ أليس من حقنا - على الأقل- استرداد ما يعادل قيمة الغرامة التي فرضتها الشركة على المصريين ظلما وعدوانا". مقتطف من الرواية كانت القناة ممتلئة بالطين اللزج، وكان الفلاحون بالمئات، رجالًا وغلمانا عراة تماما يتمرغون في الوحل، الذي يكاد يصل إلى إبطهم وكأنهم ضفادع في بركة، بعضهم يحملون القفف، وهي نوع من السلال ذات المقبضين تصنع على نطاق واسع في صعيد مصر، وآخرون مكلفون بحمل المجرفة، وأحيانا عندما تنقصنا القفف، كانوا يضعون على خاصرة زملائهم كومة من الرغام. كان أولئك المساكين يحتجزونها بأيديهم من الخلف، ويسرعون بإلقائها على حافة الأخدود، ولكن هذا الوحل كان يجف في الشمس الحارقة، وسرعان ما يلتصق بأجسادهم، ولا بد من كشطه. كان هؤلاء يصعدون، ويهبطون، ويجرون، ويمثلون أنهم يضحكون، وأنهم في مزاج سعيد. وعلى الطريق الذي نجر فيه المراكب إلى الشاطئ وعلى حافة الجرف، يقف شيوخ القرى التي تم استدعاؤها للسخرة، في جلباب أسود أو أزرق، معتمرين عمامة كبيرة بيضاء أو خضراء، متكئين على عصا غليظة، يبثون الحماسة في رجالهم. وعلى مسافة أبعد، في المؤخرة، يجلس البك على الحصان متوسطاً اثنين من الأغوات. هذه المجموعة الراكبة على ظهور الخيل، في خضم هذه الكائنات البشرية التى تزحف في الوحل، تحت الشمس الحارقة. كانت تشكل مشهدا رهيبا تقع عليه العين. كانت تلك هي القوة، القوة الباطشة لسيد لا يرحم، سيد وحشي يراقب عمل عبيده. كان الفلاحون يدّعون الضحك، ولكن لا يكاد الشيخ أن يشرد أو يحيد بعينيه، إلا وتحدث ضربة من معول، فتبقر القفة التى قدمتها الحكومة. لكن بمجرد أن ينتبه الشيخ، ويعرف من الذى سدد الضربة، حتى يمسك به الأغوات ويصرعونه أرضا، ويمددونه على بطنه، ورغم صيحاته، وشكواه، وتضرعه بحق لحية النبي، فإن الكرباج يحفر خطوطا زرقاء وصفراء وحمراء على باطن قدميه، حتى يشير لهم التركي الصامت بأن هذا يكفي. هذا هو عمل الفلاحين.

مشاركة :