من عبقرية الأفراد لعبقرية المنهج

  • 7/24/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يطيب للدول النامية الافتخار بوجود عقول عظيمة بين أراضيها وبين أفراد شعبها، وتدلل على ذلك إما بهجرة بعض العقول المتميزة إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، حيث يتم استقطابها، أو خلال إقامتهم في بلادهم وحصولهم على جوائز عالمية نتيجة جهودهم الإنسانية أو البحثية أو غيرها. وفي خضم الإشارة بأرض الولادة لمثل هذه العبقريات الفذة، تحاول أدبيات الخطاب المفاخرة بهذا أن تقول للناس: لا توجد إشكالية في العقول، فلدينا عقول كما لديهم عقول، ولدينا إمكانات وبيئة مهنية كغيرنا إذ لا ثمة فروق تذكر، مدللة على أن الإنسان عبقري بذاته، أو مدللة أن البيئة لديهم لديها قدرة على الإنجاب لكن – الحقيقة الواضحة - أنها غير قادرة عن بناء سلسلة من الاكتشافات والإبداعات والاختراعات القادرة على صناعة منهج خاص بها، وإلا لما استمرت بلادا نامية! ​عموما، ما يجدر القول فيه، أن في كل بيئة توجد طفرات غير طبيعية في العقول، وما ينتج في الدول النامية من عقول ذكية وعظيمة ومسهمة بشكل كبير في العمل الإنساني هو فعل طبيعي ملتصق بالإنسان وحالاته، وليس للبيئة إلا نزر يسير في هذه الحالة (أقصد حالة وجود طفرات علمية في العقول في الدول النامية). فالذكاء والفهم والذاكرة والتأمل والقدرة على الوعي والإدراك والربط بين الأشياء غير المترابطة والفصل بين ما يظن أنه مترابط، وأهم من ذلك القدرات الفردية للبحث العلمي، يمكن أن نقول عنها إنها صفة إنسانية تزيد في أشخاص وتقل في آخرين، وألا فضل للمجتمعات النامية يذكر على هؤلاء الأشخاص سوى بيئة أولية، والأجدر أن تركز تلك المجتمعات على البيئة الجمعية والتهيئة قبل تركيزها على إنجازات الأفراد، وإلا لو كانت البيئة متوافرة لما هاجرت تلك العقول، وإلا لما ذهبت عوائد الاكتشافات للمؤسسات الغربية، وإلا لما كانت الجوائز عالمية بل تم تطوينها هي الأخرى! ​في الغرب، تبدو البيئة العلمية أوضح، حيث العمل الجماعي المتكامل هو ما يمكن الفخر فيه، وليس هذا فحسب، بل إن تلك البيئة هي ما يمكنها أن تجعل من أرباع العلماء وأنصافهم علماء بفضل الإمكانات فما بالك بالأذكياء في تلك البيئة، ليتشكل في هذه اللحظة ما يمكن تسميته بالمجتمع العلمي، حيث الطفرات والإمكانات والمنافسات والتسارع الحثيث والبيئة المناسبة والدعم المدروس، والسير وفق الخطط المرسومة أو كسرها حتى بطريقة منهجية، تلك المنظومة التي تشترك فيها المؤسسة الاقتصادية مع المؤسسة العلمية والبحثية، لتنتج علوما مربحة ومؤثرة وقادرة على الاستدامة، بدلا من ظاهرة الطفرات الفردية! إذن، يمكننا القول إن الإبداع المنهجي أهم من الإبداع الفردي، فإبداع الفرد لنفسه وإبداع المنهج للمجتمع وعبقرية الفرد قد تبقى في البلد وقد تتحول لبلد آخر، وقد ينكفئ عليها صاحبها وقد يجعلها للعموم، لكن عبقرية المنهج هي ما يمكن إنتاجه بكفاءة عالية وغير محدودة، بل وتنمية فكرية مستدامة للأجيال، متحسسين روح المسؤولية الملقاة على الجميع. وحتى لا نكون في الوصف أكثر من المثال، فما مجتمع إيطاليا الفني القرون الوسطى إلا بيئة مجتمعية مؤسسة على الإبداع يتنافس فيها آلاف المبدعين، وما ثورة التأليف والكتابة في العالم الإسلامي في العصر العباسي إلا ثورة الجماعة والمنهج على قوة الأفراد، وما الإبداع الفلسفي الحديث من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين، إلا ثورة مجتمعية اجتمع فيها عشرات الفلاسفة غيروا وجه العلم والعالم والتاريخ. وأخيرا، وكمثال أخير، البرازيل، وهي تصدر لاعبي كرة القدم بشكل مهول للغاية إلا مجتمع الإبداع وعبقرية منهج كرة القدم الذي لا ينافسه أحد، إذ علمت أن جيشا من اللاعبين الدوليين يقدرون بالآلاف يلعبون كمحترفين خارج البلاد يقابلهم أضعاف هذا العدد داخل البلاد، ويقابله تطور مستمر في اللعبة والمهارة، تعز هذه المهارة للمنهج الذي لا يكاد يراه أحد، ولكن نتائجه في الأفراد واضحة للغاية، ولا يخفى على أحد أن الدول النامية معنية باستخلاص الدروس المستفادة من هذه الآليات، وإلا فإن عجلة التنمية هناك تتسارع وهنا تتباطأ، وتزداد الفجوة حتى تصبح مسألة اللحاق بالآخر تبدو مسألة صعبة للغاية.

مشاركة :