جنوب السودان.. هل طويت صفحة الصراع؟

  • 3/3/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في الثاني عشر من فبراير الماضي، وفي خطوة بدت تصالحية، أصدر سلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان قراراً بإعادة تعيين غريمه رياك مشار في منصب النائب الأول لرئيس الدولة، وهو المنصب الذي سبق عزله منه في يوليو2013، ما أفضى إلى اندلاع حرب أهلية في البلاد. وفي الوقت الذي رحب فيه الكثيرون بهذا القرار باعتباره دفعة قوية صوب تنفيذ اتفاق تقاسم السلطة، فقد طالب مشار، الذي لم تطأ قدماه التراب الوطني منذ توقيع الاتفاق، بمزيد من الإصلاحات التي رأها لازمة لإحلال السلم في البلاد، وطي صفحة دامية في تاريخ الوطن. كان أطراف الصراع في جنوب السودان قد توافقوا في أديس أبابا على اتفاق لتقاسم السلطة في البلاد في 18 أغسطس 2015، بوساطة منظمة إيجاد، ومشاركة ممثلي الترويكا الدولية (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج)، وممثلين عن الصين ودول إفريقية أخرى. وضم الاتفاق أربعة أطراف هم: الحكومة بقيادة سلفاكير، والمتمردون بزعامة مشار، ومجموعة العشرة (أعضاء المكتب السياسي للحركة الشعبية) بقيادة باقان أموم، والأحزاب السياسية في جنوب السودان. قضى الاتفاق بتدشين فترة انتقالية لمدة ثلاثين شهراً، يتم خلالها تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتقاسم السلطتين التنفيذية والتشريعية بين أطراف الصراع، وإصدار دستور دائم للبلاد، وإجراء انتخابات عامة، فضلاً عن ترتيبات تتعلق بالأمن، وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، والمصالحة الوطنية، والقضاء، وإعادة الإعمار، وإصلاح الاقتصاد. بالنسبة لتقاسم السلطة التنفيذية، تم الاتفاق على بقاء سلفاكير رئيساً للدولة، وتعيين مشار نائباً أول للرئيس، والإبقاء على جميس واني في منصبه كنائب للرئيس، وتشكيل مجلس للوزراء يضم 30 وزيراً، بنسبة 50% للحكومة، و33% لفريق مشار، و17% تتوزع بين مجموعة العشرة والأحزاب السياسية. على أن تحصل الحكومة على 85% في مجالس الولايات، ويحصل المتمردون على 15%، باستثناء الولايات الثلاث الأكثر تأثراً بالحرب وهي جونجلي والوحدة وأعالي النيل، حيث تكون نسب التقاسم 46% للحكومة، و40% للمتمردين، و7% لكل من مجموعة العشرة والأحزاب السياسية. أما السلطة التشريعية، فتم الاتفاق على زيادة عدد مقاعد البرلمان خلال الفترة الانتقالية من 332 مقعداً إلى 400 مقعد، بزيادة قدرها 68 مقعداً، يخصص منها 50 مقعداً للمتمردين، و17 مقعداً للأحزاب السياسية، ومقعد واحد لمجموعة العشرة، مع اتخاذ القرارات البرلمانية بالإجماع، أو موافقة ثلثي الأعضاء في المسائل المتعلقة بتنفيذ اتفاق السلام، والأغلبية البسيطة في المسائل الإجرائية. وبالنسبة للترتيبات الأمنية، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار، واحتفاظ الأطراف بقواتهم المسلحة خلال الفترة الانتقالية، بحيث يتمركز جزء منها داخل العاصمة جوبا، فيما تنسحب غالبية القوات إلى مسافة 25 كم خارج العاصمة، خلال تسعين يوماً من بدء الفترة الانتقالية، وتكوين قوات مشتركة تكون نواة للقوات المسلحة الوطنية، والتي سوف يتم إدماجها تحت مسمى جديد، بعد ثمانية عشر شهراً من بدء الفترة الانتقالية، وأن تنسحب القوات الأجنبية من البلاد. بدا واضحاً للوهلة الأولى أن هناك الكثير من العقبات التي تعترض تنفيذ بنود الاتفاق، وأهمها: غياب الثقة بين أطرافه، وعدم معالجته للقضايا الهيكلية التي تعتبر ضرورة لتحقيق السلم والاستقرار، فضلاً عن التحديات الأمنية والاقتصادية، والتدخلات الخارجية، بما قد يفضي إلى احتمالات تتراوح بين التعثر في تطبيق الاتفاق وصولاً إلى انهياره كلية وتجدد القتال. فأطراف الصراع يفتقرون بشكل واضح إلى الثقة المتبادلة. فهم لم يذهبوا إلى مائدة التفاوض في أديس أبابا عن قناعة بضرورة إحلال السلم في البلاد، والاكتفاء بما حاق بها من انهيار للاقتصاد، وتدمير للبنية الأساسية المنهكة أساساً، وخسائر بشرية لا يمكن تعويضها، وجموع غفيرة من اللاجئين والنازحين الذين شردهم ذلك القتال الفوضوي لأجل السلطة والثروة. لكنهم دفعوا إلى مائدة التفاوض دفعاً، خوفاً من العقوبات، إذ ما أحيل ملف انتهاكات حقوق الإنسان إلى المحكمة الجنائية الدولية، ويأساً من إمكانية تحقيق نصر عسكري حاسم في ظل توازن القوى القائم. ولعل ذلك هو ما يفسر عدم عودة مشار إلى جنوب السودان منذ توقيع الاتفاق، وتنقله بين العواصم الإفريقية، من القاهرة إلى بريتوريا، بحثاً عن ضمانات لأمنه الشخصي، والتماساً لضغوط خارجية على خصومه. كما يفسر أيضا تأخر سلفاكير والأحزاب السياسية في التوقيع على الاتفاق. إذ قدمت الحكومة ستة عشر تحفظاً على الاتفاق، أهمها أنه كافأ مشار بإعادته إلى منصبه، بالرغم مما اقترفه في حق الوطن. واشترط تشاور سلفاكير مع مشار فيما يتخذ من قرارات، بما قد يعرقل عملية صنع واتخاذ القرار. كان توزيع المقاعد الوزارية والمناصب الولائية محوراً آخر للخلاف بين أطراف الاتفاق، حيث تحفظت الحكومة على تعيين المتمردين لحكام ولايتي الوحدة وأعالي النيل، الغنيتين بالثروة النفطية، والحصول على 46% من تشكيل مجلسي الحكم في الولايتين، حيث تصر الحكومة على الاحتفاظ ب70% من تشكيل تلك المجالس. وينطبق ذلك أيضا على الحقائب الوزارية، حيث تم الاتفاق على تعيين الحكومة ل16 وزيراً، وتخصيص 10 حقائب وزارية للمتمردين، وحقيبتين وزاريتين لكل من مجموعة العشرة والأحزاب السياسية. وبالرغم من احتفاظ الحكومة ببعض الوزارات السيادية مثل الدفاع والإعلام، والعدل والأمن القومي، فقد ظلت هناك تحفظات حكومية على تولي المتمردين وزارات النفط والداخلية والتعدين، وتولي مجموعة العشرة وزارة الخارجية. كما تحفظت الأحزاب على نصيبها في كعكة السلطة، مؤكدة أنه لا يتسق مع وزنها السياسي، وأن الاتفاق جاء انعكاساً لعامل واحد فحسب، هو توازن القوة المسلحة بين أطرافه. لذا كان الاتفاق أقرب إلى مساومات تستهدف توزيع غنائم الحرب، وفق نظام المحاصصة. وقد أفضى ذلك إلى تأجيل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لمرات عديدة كان آخرها في 22 يناير الماضي. في ذات الاتجاه يرى أطراف الاتفاق- وتؤيدهم منظمة إيجاد- أن إصرار سلفاكير على إنفاذ قراره الصادر في أكتوبر2015، بزيادة عدد الولايات في جنوب السودان إلى 28 ولاية، على أساس إثني في الغالب، بمثابة إفراغ للاتفاق من مضمونه، ومعول لهدمه، خاصة في ظل سعيه لتقنين ذلك في الدستور الجديد للبلاد، وهو ما دفع مشار إلى الإعلان عن انهيار الاتفاق. يضاف إلى ذلك تردي الوضع الاقتصادي، وتفاقم المأساة الإنسانية، خاصة مع انسحاب بعض منظمات الإغاثة الإنسانية، ومنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي انسحبت من مقاطعة لير. ولعل ذلك هو ما دفع لجنة العقوبات بمجلس الأمن الدولي إلى التوصية بفرض عقوبات على سلفاكير ومشار، وفرض حظر على صادرات السلاح إلى جنوب السودان. لكن الفيتو الروسي المدعوم من أنجولا العضو غير الدائم في المجلس ظل حائلاً دون إقرار تلك العقوبات. من جهة أخرى، هناك تخوف من التدخلات الأجنبية في مجريات الصراع، حيث تتحفظ الحكومة على سلطات اللجنة المشتركة لمراقبة الاتفاق وتقييمه، التي يترأسها شخصية أجنبية هي الرئيس البتسواني السابق، فيستوس موغاي، باعتبار أن صلاحيات اللجنة تفرض نوعاً من الوصاية الأجنبية على جنوب السودان، فتجعلها أقرب إلى دولة تحت الاحتلال. فيما يتخوف المتمردون من احتمال تدخل القوات الأوغندية المتمركزة في ولاية غرب النيل لصالح سلفاكير، بما يؤثر في توازن القوى في غير صالحهم. لكل هذه الأسباب، فمن المتوقع استمرار حالة عدم الاستقرار في جنوب السودان في المستقبل المنظور، خاصة أن اتفاق التسوية لم يركز على مسألة ذات أهمية قصوى وهي تشجيع أطراف الاتفاق على خلق هوية وطنية مشتركة، بما يعزز قيم المشاركة وعدم الإقصاء، والالتزام بالدستور وسيادة القانون. ونظراً لأن هذا الأمر يعد عملية تطورية طويلة المدى، فيمكن لأبناء الجنوب إقرار مفهوم آخر هو الموطنة الدستورية، وهي صيغة يرتكز فيها الولاء الوطني على مبادئ الدستور. ففي ظل المواطنة الدستورية، سيكون هناك نوع من العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، يتمتع في ظله جميع المواطنين بالحقوق الدستورية مقابل الالتزام بالواجبات الدستورية، على أن تصنف مسألة الانتماءات القومية والدينية والإثنية كحق من حقوق المواطن الدستورية، التي لا يقيدها سوى تجاوز الدستور، والتآمر على الدولة، والخيانة العظمى. لكن ينبغي الأخذ في الاعتبار عدم إمكانية الاعتماد بشكل مطلق على صيغة المواطنة الدستورية كحل لقضية الهوية وتحقيق الاستقرار في جنوب السودان. إذ من الأنسب اعتبارها بمثابة صيغة مؤقتة، تتوخى تحقيق الاستقرار السياسي والأمني، وصولاً إلى صيغة الهوية الوطنية، على المدى الطويل، التي يسمو عندها الولاء للوطن على حساب الولاءات التحتية الضيقة. نائب مدير مركز الدراسات السودانية. معهد البحوث والدراسات الإفريقية (جامعة القاهرة)

مشاركة :