تحدثت قبل أيام مع ابني حسام في اليابان فسمعت أصواتا كثيرة حوله (على غير عادة اليابانيين).. سألته أين أنت، قال في قطار توقف فجأة بسبب شخص انتحر تحت عجلاته.. قالها ببرود كونها ليست المرة الأولى التي يشهد فيها حادثا كهذا في بلد يأتي في مقدمة المنتحرين في العالم!! .. والمشكلة في اليابان لا تتعلق بكثرة المنتحرين أنفسهم بل في أن الحياة هناك منظمة لدرجة أن تأخيرا قدرة خمس ثوان (خمس ثوان بلا مبالغة) يحدث ربكة في شبكة القطارات وأعمال الموظفين والشركات!! وأذكر شخصياً (حين زرت اليابان قبل ثلاثة أعوام) أنني رأيت في محطة شنشكو رجالاً يلبسون زياً غريباً ويحملون في أيديهم أجهزة تشبه الكشافات الضخمة.. سألت مرافقي من هؤلاء قال: رجال أمن مهمتهم كشف المنتحرين من خلال التفرس في الوجوة ورصد ملامح العصبية والتوتر وارتفاع درجات الحرارة والتعرق.. قلت: وماذا لو فاتهم أحد المنتحرين ورمى نفسه أمام القطار؟ قال بدون أن يطرف له جفن: تغرم الحكومة عائلته 800 ألف دولار!! والحقيقة هي أن دولاً مثل جرينلاند وليثوانيا وغيانا وكوريا الجنوبية وكازاخستان تتفوق على اليابان في معدل المنتحرين (لكل 100 ألف مواطن).. غير أن اليابان تكاد تكون البلد الوحيد الذي يملك ثقافة تشجع على الانتحار وتعتبره قرارا شجاعا لا يقدر عليه كل إنسان، وهو ما يفسر حملهم هم التأخر عن العمل، أكثر من وفاة شخص اختار الموت طواعية تحت القطار... فالثقافة اليابانية تحث على الانتحار في حالة الفشل والهزيمة وعدم القدرة على أداء الواجب.. وفي حين تنظر كافة المجتمعات للانتحار كمأساة حزينة ينظر اليابانيون للانتحار (بسبب التقصير أو ارتكاب خطأ) كوسيلة اعتذار ومحاولة لاستعادة الاحترام.. وتعود هذه النظرة إلى قرون طويلة مضت وظهرت على نطاق جماعي واسع خلال الحرب العالمية الثانية، وتحدث كثيرا هذه الأيام بعد انتهاء مواسم الامتحانات.. فرغم أن هزيمة اليابان باتت مؤكدة في نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتوقف هجمات الطيارين الانتحاريين "الكاميكازي" على السفن الأميركية ليس على أمل تغيير مجرى الحرب بل تكفيرا عن فشلهم في صد الهجوم ولتقديم اعتذار فعلي للشعب الياباني.. أما على الأرض فبدأت سلسلة انتحارات صامتة، بدأت برئيس الوزراء وقادة الجيش والضباط والمسؤولين السياسيين!! وثقافة كهذه هي ما تجعل انتحار المسؤولين (حتى يومنا هذا) أمرا مفروضا ومتوقعا بعد أي فشل أو فضيحة أو فساد مالي.. وفي المقابل؛ نحتل نحن في السعودية المركز الأخير (في معدلات الانتحار) بفضل الوازع الديني وتحريم قتل الإنسان نفسه.. ولأن الانتحار لدينا "حرام" يحرص مسؤولونا على عدم تسرب شيء حتى يأتي عزرائيل بنفسه.. .. بعدها نتوقف نحن عن دراسة أسباب الفشل والفساد بحجة أن "الضرب في الميت حرام"!!.
مشاركة :