خفض اليوان الصيني يؤجج المخاوف بشأن «حرب عملات»

  • 3/3/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

خلال اجتماع وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية لبلدان مجموعة العشرين في مدينة شنغهاي الصينية أخيرا، كان نجم الاجتماع بلا منازع هو لو جى وى وزير المالية الصيني، فالأنظار توجهت إليه على أمل الحصول على تطمينات بأن السلطات الصينية ستبذل أقصى ما في وسعها، لتفادي مزيد من التدهور في ثاني أكبر اقتصاد عالمي. وبالطبع لم يتوان الوزير الصيني عن إعطاء تلك التطمينات لنظرائه، مؤكدا للجميع، خاصة المنافسين التجاريين كاليابان والهند والولايات المتحدة الأمريكية بأن بكين لن تخفض قيمة عملتها الوطنية لتحفيز الصادرات، ولن تخاطر بحرب عملات يخرج الجميع منها خاسرا، معربا عن ثقته بأن البنك المركزي الصيني لا يزال في جعبته عديد من الآليات في مجال السياسات المالية والنقدية لمواجهة التراجع الراهن في النمو الاقتصادي. وانفض الاجتماع وسط شعور "رسمي" بالارتياح، لكن في الأروقة والأحاديث الخاصة والنقاشات الجانبية كان الأمر مختلفا، فالجميع يعلم أن الآليات التي تتحدث عنها بكين تتقلص يوما بعد آخر، وأن خفض العملة سواء رغبت الصين في ذلك أم لم ترغب، ستكون الملاذ الحاسم لإعادة التوازن إلى الاقتصاد المترنح. وبينما كان المشاركون في الاجتماع يتجهون إلى مطار شنغهاي استعدادا للمغادرة، بدأت الأخبار الأولى تفد إليهم، فالأسهم الصينية تتراجع مع استمرار انخفاض قيمة اليوان، والسبب أن البنك المركزي الصيني حدد "نقطة تداول" منخفضة لقيمة العملة في مواجهة الدولار، حيث بلغت 6.5452 وهي أقل "نقطة" يتم تداول العملة الصينية عندها خلال شهر. وأثار الموقف الصيني شعورا عالميا بأن الأمور تسير في طريق محفوف بالمخاطر على التجارة الدولية وحرب العملات بين الاقتصادات الكبرى. وأوضح لـ"الاقتصادية"، الدكتور توم مورتن أستاذ التجارة الدولية في جامعة لندن، أن هناك انزعاجا كبيرا من الخطوات الصينية في معظم وزارات التجارة وشركات التصدير في العالم، فاليوان انخفض في مواجهة الدولار بنحو 4.4 في المائة خلال أسبوع، ما يعني أن السلع الصينية باتت أرخص من منافسيها، وبالتالي القدرة التصديرية للصين الآن أعلى، وإذا أخذنا في الاعتبار مثلا أن متوسط التعريفة الجمركية في الولايات المتحدة على السلع الصناعية أقل من 2 في المائة، فإن الانخفاض في قيمة العملة الصينية يمحي بسهولة معظم التعريفات الجمركية في الولايات المتحدة، فإذا أضيف لذلك أن الدولار في وضع قوي، فإن الصادرات الأمريكية ستكون بذلك في وضع سيئ للغاية، خاصة المتجهة منها للصين. وعلى الرغم من أن الجانب الأمريكي لا يعد المتضرر الأوحد من خفض قيمة اليوان، إلا أنه الأكثر صراحة حتى الآن في انتقاد بكين بقوة، باعتبار واشنطن اللاعب الأكبر في الاقتصاد الدولي، في ظل حالة الركود التي تجتاح أوروبا واليابان. وقد تجلى الموقف الأمريكي في اتهام أعضاء من الحزب الجمهوري في الكونجرس للصين "بالخداع والغش" والسعي لإلحاق الضرر بالاقتصاد الأمريكي عبر خفض قيمة عملتها الوطنية. ومع هذا، فإن بعض الخبراء البريطانيين لا يحملون الصين بمفردها التبعات الناجمة عن خفض اليوان، ويشير البروفيسور مارتين هاريس الاستشاري في الاتحاد الأوروبي إلى أنه لا يوجد اتفاق دولي حول "محددات التلاعب بقيمة العملة الوطنية". وفي هذا السياق يضرب هاريس لـ "الاقتصادية" مثلا قائلا: إن التلاعب في أسعار الصرف ربما يعد المثال الأوضح لخفض أو رفع قيمة العملة الوطنية، لكن ماذا عن رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية، فهذا يترك أيضا تأثيرا بينا على قيمة العملة المحلية، وقيام المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أخيرا برفع أسعار الفائدة يمكن للآخرين النظر إليه باعتباره وسيلة أمريكية لتعزيز عملتها، وهذا تحديدا ما دفع بدولة مثل البرازيل إلى اتهام واشنطن بتفجير حرب عملات أخيرا، وذات الاتهامات وجهت لليابان عندما فرضت سعر فائدة سلبيا، فالتصور الذي يروج له البعض بأن الوضع الأمثل يعتمد على ترك العملة تحدد قيمتها، وفقا لقوى السوق تصوري نظري غير واقعي. وأضاف هاريس أنه خلال العقدين الماضيين ارتفع اليوان الصيني في مواجهة الدولار بنحو 30 في المائة، ولكن منذ إدراجه ضمن سلة السحب الخاص لصندوق النقد، فإنه يتراجع وهو في حاجة إلى مزيد من الوقت للتعامل مع وضعه الجديد، ومن ثم يمكن اعتبار الوضع الراهن لانخفاض العملة الصينية، وضع اضطراب طبيعي جراء التطورات المستحدثة. ويجد البعض في وجهة النظر تلك مبررا لم يمكن اعتباره معركة تخوضها الصين "بمفردها" ودون عون دولي حقيقي لضبط أوضاعها الاقتصادية الداخلية، إذ يلاحظ حتى الآن وبعيدا عن التصريحات الصحفية، فإن المؤسسات الدولية العالمية مثل صندوق النقد أو البنك الدولي لم يقدما عونا حقيقيا وملموسا لبكين لمساعدتها على توجيه قوى السوق بطريقة تضمن استقراراً لليوان. ولا تخفي أسماء كبيرة لمسؤولين في صناديق التحوط الدولية الآن هجومهم الشديد على الصين وعملتها، وبالطبع لم يلتزم العملاق الصيني الصمت، إذ شن مسؤولون رسميون في الصين هجوما شرسا على كبار المضاربين الدوليين في مجال العملات وفي مقدمتهم الملياردير جورج سوروس، بحيث باتت المواجهة بين الطرفين علانية ومفتوحة على كل الاحتمالات. وأشار لـ"الاقتصادية"، ستيوارت روبن كبير المحللين الاستراتيجيين في بورصة لندن، إلى أن الإعلام الصيني الرسمي شن هجوما على سوروس لشعوره بأنه يستهدف اليوان الصيني ودولار هونج كونج، ويسعى لاستغلال نقاط الضعف الناجمة عن اضطراب سوق رأس المال في الصين، ولا شك أن تصريحات لشخص بتأثير سوروس في سوق العملات بأن هبوطا حادا في قيمة اليوان مستقبلا أمر لا مفر منه، تؤثر بشكل ملحوظ في قيمة العملة الصينية. وبالفعل فإن عددا ملحوظا من صناديق التحوط العالمية، خفضت نسب الاحتياط لديها من اليوان وبعض العملات الآسيوية التي يتوقع تراجعها أيضا من أي انخفاض في قيمة العملة الصينية. ويستبعد بعض الخبراء في بنك إنجلترا أن يقدم اقتصاد بحجم الصين على خوض أو دفع الاقتصاد الدولي لحرب عملات، حيث يعتبر الدكتور جون نيل الاستشاري في بنك إنجلترا أن حرب العملات حديث في وسائل الإعلام أكثر منه حديث ملموس على أرض الواقع، وأن دولة بحجم ومسؤوليات الصين لا يمكن لها أن تجر الاقتصاد الدولي إلى تلك الحرب، ليس فقط من منطلق الربح والخسارة، ولكن أيضا من منطلق المسؤولية الدولية، وتلك وفقا للدكتور نيل أكثر أهمية وخطورة بالنسبة للصين. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أن علينا أن نفرق أولا بين قرارات اقتصادية تتخذها الحكومة الصينية لوقف تدهور الاقتصاد، وذلك في مصلحة الصين والاقتصاد العالمي، ويكون من نتائجها انخفاض قيمة العملة الصينية، وبين قرارات أخرى ترمي إلى خفض قيمة العملة في حد ذاتها، المجموعة الثانية من القرارات تدخل في نطاق حرب العملات، أما المجموعة الأولى فهي قرارات محل خلاف وجدل، يمكن أن تؤدي إلى انتقادات دولية للصين، لكنها لا ينجم عنها قيام الآخرين بتبني سياسات عدائية ومتبادلة في مجال خفض قيمة العملة، فقرار حرب العملات قرار شديد العدائية، ومن ثم يخرج في حقيقته من نطاق الاقتصاد إلى عالم السياسية، ولا يوجد حتى الآن أي مؤشر على أن القيادة الصينية اتخذت هذا القرار. ولا شك أن وجهة النظر تلك تجد تأييدا من قبل البنك المركزي الصيني، لكنها تجد أيضا قبولا من قبل عدد من الخبراء في مجال الاقتصاد الدولي الذين يعتقدون أن الأرقام التي أعلنها البنك المركزي الصيني عن تراجع احتياطاته من العملات الأجنبية وتقلصه إلى 3.23 تريليون دولار أواخر الشهر الماضي، مؤشرا حقيقيا على سعيه لتفادي حرب العملات، عبر ضخ مليارات الدولارات في السوق المحلي للحد من حدوث هبوط كبير في قيمة العملة الصينية، وهو ما قد يسيء تفسيره من قبل منافسي بكين في السوق الدولية، ويفتح المجال أمام حرب عملات ضروس تؤدي إلى مزيد من تدهور اليوان، وتآكل حقيقي في رصيد الصين من العملات الدولية.

مشاركة :