تعرضت لعلاقتى الوثيقة بالأزهر والأزهريين، وها أنا ذا أتعرض للكنيسة المصرية والأقباط الذين يمثلون تجمعًا بشريًا مصريًا خالصًا عبر القرون، وعندما كلفنى الرئيس الراحل مبارك بالعمل سكرتيرًا للمعلومات والمتابعة كان البابا شنودة لا يزال فى منفاه الاختيارى بالدير فى وادى النطرون، منذ قرار الرئيس الراحل السادات بسحب تصديق الدولة على توقيعه تحت مسمى عزل البابا شنودة، ولم تكن التسمية بالطبع دقيقة لأن البابا ليس موظفًا يعينه الرئيس حين يشاء ويعزله حين يريد. وكانت البداية عندما تلقى الرئيس الراحل اتصالًا هاتفيًا من الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض- خادم الحرمين الشريفين حاليًا- وعندما أُبلغ الأمير السعودى الكبير بأن الرئيس يستريح فى قيلولة الظهيرة طلب التحدث إلى سكرتيره وتم تحويل المكالمة إلىّ، فإذا الأمير ينادينى باسمى فى ألفة ظاهرة وقال لى: أرجو أن تخبر فخامة الرئيس بأن لدينا مطلبًا عنده وهو أن يحضر البابا شنودة افتتاح معرض الرياض اليوم الذى سوف نقيمه الأسبوع القادم بأرض المعارض فى القاهرة، حتى تكون هذه من أولى المناسبات التى يحضرها البابا بعد زوال المحنة وعودته إلى كرسيه بعد غيبة امتدت أكثر من أربع سنوات، وعندما أبلغت الرئيس مبارك- رحمه الله- أبدى سعادته بقبول هذا الطلب، ووجه بدعوة البابا ليكون أحد الضيوف الرسميين لحفل الافتتاح، ولقد شهدت عدة مناسبات اهتمت فيها المملكة العربية السعودية بالتعامل الطيب مع أقباط مصر وأثناء سنوات عملى فى الرئاسة وهى ثمانية. بل وسنوات أخرى بعدها، كان الرئيس مبارك يوفدنى إلى البابا شنودة فى أوقات الأزمات الطائفية والفتن الدينية لعلمه بصلتى الأكاديمية بالكنيسة، حيث إننى حاصل على الدكتوراه من جامعة لندن فى موضوع عنوانه (الأقباط فى السياسة المصرية)، وقد اخترته حينذاك لأننى لاحظت فى مطلع سبعينيات القرن الماضى بوادر أزمات طائفية فى الطريق خصوصًا بعد حادثى الخانكة والزاوية الحمراء، ولذلك ربطتنى بالبابا شنودة علاقات وثيقة للغاية وكنت أراه صديقًا كبيرًا متعدد الجوانب، فهو أديب وشاعر، وصحفى وكاتب، وضابط احتياط سابق فى الجيش المصرى، فضلًا عن أنه كان منتميًا لحزب الكتلة الذى كان قد أسسه مكرم عبيد بعد خلافه مع النحاس وخروجه من الوفد، وقد عاصرت مع البابا شنودة لحظات صعبة فى أزمات متعددة وكنت أسأله: هل أنت غاضب؟، فيقول: لا بل حزين، وهو الذى قال: (إن الأقباط لا يعانون من الاضطهاد أو التحيز ولكنهم يشعرون أحيانًا بالتهميش)، وكان بينه وبين الرئيس مبارك احترام متبادل، وقد ذهبت إلى البابا خارج العاصمة عام 2010 قبيل افتتاح البرلمان الجديد حيث كان معتكفًا بسبب الحادث الطائفى فى منطقة العمرانية بالهرم، وقد استجاب البابا يومها لوساطتى وعاد إلى الكاتدرائية المرقسية فى القاهرة، وحضر احتفال افتتاح البرلمان بعد أن استقبله الرئيس مبارك فى لقاء منفرد حسب طلب مكتب البابا الراحل فى ذلك الوقت. وقد ظل البابا على عهده فى السعى نحو بلورة الشخصية القبطية المصرية لكى تصبح جزءًا من هوية هذا الوطن على المستوى العربى، وأزال بذلك الصورة الضبابية المتبادلة بين الأقباط والعروبة فى فترة من بدايات القرن العشرين. وجدير بالذكر أن العصر الذهبى للوحدة الوطنية أثناء ثورة عام 1919 وفى أعقابها سيظل علامة مضيئة فى دور الكنيسة إلى جانب المسجد فى صياغة الوحدة الوطنية وتكريس ملامحها المعاصرة. ولقد قال لى المفكر الكبير الراحل د.لويس عوض ونحن على مائدة الغذاء فى النادى الدبلوماسى بالقاهرة: «إن عبد الناصر كان يرسل من يتسمع لوعظات الكنائس»، مدللًا بذلك على موقفه السلبى تجاه الأقباط، فقلت له: «لا تنس أيضًا أنه كان يرسل من يتسمع لخطب الجمعة فى المساجد، فذلك موقف سياسى لا علاقة له إطلاقًا بالجانب الدينى فى الموضوع». ولذلك ظلت العلاقة مع البابا الزاهد الناسك القديس كيرولس السادس علاقة طيبة كان من نتائجها مساهمة الدولة رسميًا فى بناء الكاتدرائية المرقسية، بينما انفجر الخلاف بين الرئيس السادات والبابا شنودة، وغابت كيمياء التوافق بينهما وانتهى الأمر بإقصاء البابا من مقره فى القاهرة على نحو غير مسبوق؛ لأن الثقة اختفت بين رجل السياسة ورجل الدين فى ذلك الوقت، وتدهورت العلاقات بين الدولة والكنيسة وجرى اتهام البابا الراحل شنودة الثالث بأنه يحاول تسييس منصبه والتدخل فى الشؤون غير الدينية للأقباط المصريين، ثم جرى اغتيال السادات وعاد البابا إلى كنيسته كما أسلفنا، وكنت شاهدًا مباشرًا بل وفاعلًا فى كل ما يتصل بالاختناقات العابرة مثل قضية السيدة وفاء قسطنطين وغيرها من المنعطفات الحادة فى تلك الفترة، ولعلى أشيد هنا بوطنية الكنيسة القبطية داعمة للمسجد الإسلامى فى وحدة وطنية أدت إلى ميلاد مبدأ المواطنة فى مصر، واحترامها على النحو الذى كرسه بقوة الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى الذى يحرص على زيارة أقباط مصر فى صلاة عيد الميلاد فى كل عام، على نحو غير مسبوق فى تاريخ العلاقة بين الدولة والكنيسة!.
مشاركة :