يعد الشاعر الأردني/الفلسطيني أحمد الخطيب من أبرز الرموز الشعرية في المشهد الشعري عربيا وهو جيل الثمانينيات من القرن الفائت، فمنذ ديوانه الأول الصادر في العام 1985 عن دار الفارابي في بيروت الموسم "أصابع ضالعة في الإنتشار"، استطاع الخطيب أن يتفرد بصوته الخاص الذي يميزه عن مجايليه من الشعراء راسما خطا بيانيا لمسيرته الشعرية التي تجاوزت الأربعين عاما على مساحة الوطن العربي. أحمد الخطيب شاعر عانى عذابات الهجرة الفلسطينية فكان "المخيم "زهرة الملتقى، والصواري حانيات الرأس فوق الجثث" تمرغ جسده الطري في أتربة مخيمه الإربدي الذي نهل من مدرسته عناوين الوجع الإنساني، كأني به تدرب حواسه على التعمق في إبصار الأشياء كما يراه بعين طفل شغوف بمعنى الحياة.. أبصر الأشياء والكائنات فاختزت في ذاكرته لتكون معراجا نحو جمال يبثه في محاريب اللغة وجمالياتها.. هكذا أخذ يشق تضاريسه ودروبه الشائكة ليمنح مساحة وفضاء وتجليات الروح.. هذه الروح التي امتلأت بوجعه ووجع ذاكرة لم تزل خضراء كشجرة واقفة في مهب الريح. أحمد الخطيب ولد طاعن بالجمال واللغة البكر، قصائده مستلة من روح الواقع الذي يصوره لنا بمشهديات بصرية أكثر اختلافا لمعنى ومبنى الشعر الذي يكمن داخله يعمل على الكشف والتجديد في بنية القصيدة التي تراوده عن نفسها باثا ماء الحياة في عصبها طارحا أسئلته المشروعة المتناغمة مع معجمه الخاص ومعجمه الجمالي بفنية أكثر إدهاشا تصدم القارئ المتلقي لمفهوم الشعر عند الشاعر الذي يعمل من خلاله على فتح بوابات ونوافذ أخرى لسبر أغوار مضامينه وقضاياه الاشكالية وتحولات النص الشعري. والمتابع لتجربة أحمد الخطيب الشعرية نراه يمعن كثيرا في ممارسة لذة الشعر الأكثر صفاء والمطبوع بعناصر الحزن والألم، فنجده الصوفي العارف المتيقن من بلاغة روحه الذاهبة إلى معاني المعرفة وجدل الحياة وتناقضاتها، وممسكا بالخيط الرفيع الذي يربط ويشتبك بما يعانيه الإنسان في هذا الكوكب المشحون والذات الشاعرة عازفا من معين اللغة وفاردا أسئلة عالقة داخل الإنسان المفجوع والمأسور لواقع مؤلم ومأزوم، ليجد المتأمل لهذه التجربة الشعرية لأحمد الخطيب أمام أكثر من سيناريو ودراما كونية إنسانية يعاين فيها أصوات تسكنه وتتكدس في جغرافيا الوقت ومتحف الإنسان. ومن خلال ما سبق ذكره واستهلاله، يضعنا الشاعر أحمد الخطيب في دهشة الإصدار لأعماله الشعرية التي صدرت مؤخرا عن دار الجنان للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان, إصدار جاء في ستة مجلدات ضخمة وهذا الإصدار لم يسبقه من قبل إلا الشاعر العراقي الراحل سعدي حيث أصدر أعماله الشعرية في سبع مجلدات وربما أكثر وهذه ميزة للشاعرين. هذا تضم المجلدات للشاعر الأردني/ الفلسطيني أحمد الخطيب، ففي المجلد الأول الذي يقع في زهاء 500 صفحة من القطع الوسط، وكتبت قصائده بين عامي 1978-1999، وجاء تحت عنوان "مزامير الورد وذاكرة الماء" المجموعات الشعرية: أصابع ضالعة في الانتشار، حاجز الصوت، أنثى الريح، اللهاث القتيل، مرايا الضرير، لا يقلّ الكلام، أرى أنه ليس في حلمه، وأيامه الأسبوع يكتب شمس غايته". ومن أجواء هذا المجلد الشعر نختار هذه القصيدة: شجرٌ على حَرَمِ القصيدةِ سيّدٌ ولجَ القصيدةَ كلَّها ورمى بأسرار الطريق على الرصيفِ فكان مِنْ أبياتها شجرٌ وعلَّمهُ الهواءُ بآيةِ الفوضى شجرٌ على حرم القصيدةِ قبلَ هذا الليلِ ضوءٌ في القصيدةِ ساطعٌ وأرى على العتباتِ ما نقشَ الضريرُ شجرٌ على طفطاف أغنيةِ السيولِ مِنَ المواسمِ غرَّةُ الليمون في قصر الشتاتِ وطفلةٌ لمستْ أصابعها الحياةُ فقلتُ: يا أمي أقيمي حُصّة النهاوند في بيتي أقيمي حُصّة الإيقاعِ ما زال الحليبُ على الأصابعْ شجرٌ، وقلنا للقصيدةِ: يا قصيدةُ هيِّئي لعرائش النهاوندِ أشجارًا مِنَ السّرو، استدلي بالرعاةِ، وعمّدي الريحَ التي شقّتْ ذراعيها لتحضنَ صبيةً مرُّوا على ألعابهمْ كالطيفِ، ما مرّوا ولكن غيّروا حَرَمَ القصيدةِ، واستمروا باللهاثْ. فيما يضم المجلد الثاني الذي جاء في 475 صفحة من القطع الوسط، وكتبت قصائده بين عامي 2000-2009، وجاء تحت عنوان "هكذا مرّ بي صاحب الحال"، ويضم المجموعات الشعرية: "رفعت خيالي إلى سكرتي، أحوال الكتابة، وما زلت أمشي، باتجاه قصيدة أخرى، حمى في جسد البحر، ولا تقل للموت خذ ما شئت من وقت إضافي". أما المجلد الثالث يقع في 503 صفحة من القطع الوسط، وكتب الشاعر قصائده بين عامي 2010-2014، وجاء تحت عنوان "سيوقّع الأمي خلف قصائدي"، المجموعات الشعرية: "حارس المعنى، ماذا تقول الريح للمرآة، كما أنت الآن كنت أنا". ومن المجلد الشعري الثالث نطالع هذه القصيدة: هاتفني قبل الفجرِ بعشر دقائقَ قبل رحيلي عن دائرةِ الفوضى فارتجَّ الإيقاعُ، ومال إلى العتمةِ يمسح ماء العتمةِ عن عين الحلمِ وما نهضتْ جدرانُ البيتِ إلى ذلك خفَّ دمي واستشعرَ شيئًا بُنّيًّا في المرآةِ فقلتُ لعلَّ الصُّبحَ ومَنْ صلّاهْ!!! يبزغُ مِنْ نافذةِ الهاتفِ فارتجفَ الطائرُ دوريًّا كان وكان القمحُ ينقِّطُ في الميزانِ فقلتُ: لعلّكَ تقرأُ عن رحلتنا بالأمسِ فقال: أنا طيرُ الشِّعرِ ومَنْ والاهْ!! هاتفني إذ مرَّ كماء الحلمِ فقلتُ: لعلَّ المرآةْ!! تعكسُ ضلعي عن ضلعٍ معوجٍّ وتقامر بالملهاةْ فوصلتُ إلى أوّلِ فجرٍ شقَّ الماءُ جيوبي وأنا عطشانْ قلتُ: لعلَّ يدي بعضُ كمائنها فخٌ لي يدُها شهوةُ تفّاحٍ لي ولها أنْ تحمرَّ كما المرجان!! فانكسرَ السّقفُ عليَّ، تهدّمَ أقصدُ فضَّ سمائي عن غيمتها ودعاني للممحاةْ! فانتفضتْ قريتنا وانتصر الشِّعرُ على النارنجْ حَمَلتني أمّي تحت عباءتها ومضتْ تستحلفُ حكمتَهُ في الإنسانْ أنْ يحفظني مِنْ عينِ الجانْ ودعاها للممحاةِ فقلتُ: هيَ الفوضى والسَّيْرُ إلى الملهاةْ في حين المجلد الرابع، كتبت قصائده بين عامي 2014-2017 وجاء تحت عنوان "ممارسة الركض ليلا"، وضم المجموعات الشعرية: "هذه سبلي وأيامي، في المتخيل أتخيل، حمام زاجل لِديك الجنّ الحمصي، وجاء المجلد في 475 صفحة من القطع الوسط. والمجلد الخامس جاء في زهاء 500 صفحة من القطع الوسط، وكتبت قصائده بين عامي 2017-2021، وجاء تحت عنوان "منازل خاصة لترجمة الأحوال" المجموعات الشعرية: "جبل خافت في سلال القُرى، قميص الأثر، أجراس الأيام الموعودة". فيما ضم المجلد السادس والأخير الذي جاء في 475 صفحة من القطع الوسط، وكتبت قصائده بين عامي 2021-2022 وجاء تحت عنوان "يرى الصقرُ أجنحة في الهواء"، المجموعات الشعرية: "كواشين صالحة للحياة، تغريبة حارس المعنى، أوغلت بالتشبيه فانكسرت مرايا". وكتب على الغلاف الشاعر والناقد العراقي الدكتور هادي النهر حيث يقول: "من منجزات الشعر الأردني المعاصر الشاعر أحمد الخطيب، ففي شعره فيض من الريادة، والتجديد، والجدّية، شعره شعر الأحياء الحيّة، وموسيقاه آسرة، وإيقاعاته ألوان متداخلة ودوائر ساطعة، قائمة على امتدادات المعاني التي رسمتها تجارب حياتية، وفكرية، وثقافية، ولغوية هائلة، ومريرة، حيث يبدأ هذا المبدع دائماً من الكلمة الفيّاضة بالدلالة والإيحاء، وينتهي عندها، وتبقى الـ(أنا) الفاعلة، والتجربة المعمّقة: الوعي بالإنسان والعالم تنتج نصوصاً شعرية تؤكّد ماهيات متحركة قائمة في السياقات اللغوية: ماهية الإنسان، والأشياء، والعلاقات، يسيطر شعر الخطيب عليها لا ليسجنها بإسقاط دلالاته عليها، ولا ليسلب أحلامها، ولكن ليخترق بها مؤسسة اللغة، وغياب الوعي الإنساني المؤهل للبحث عما وراء الكلمات من دلالات وإيحاءات، وليكتشف تبدّد الواقع الإنساني وضياعه في خضم الانكسارات المتلاحقة، والهموم الإنسانية المذبوحة، وأيام الوجع الإنساني، بل ساعاته التي أفقدت إنسان اليوم _ أو كادت_ ذاكرته، فأضحى يعيش على فعل الاجترار والتذكير بدلاً من فعل الالتقاط والتركيب والوعي، وصرنا إزاء اجترار عالم متذكَّر مفقود احتفظ به نتاج المحسوبين على الثقافة والفكر". ويذكر أن المجموعات الشعرية صدرت في الأردن، لبنان، سوريا، الجزائر، والسودان، ويشار أن الشاعر الخطيب حاصل على المركز الأول في محور الشعر، مسابقة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي 2021، وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وشارك بالعديد من المهرجانات الشعرية المحلية والعربية والدولية، وترجم عدد من قصائده إلى اللغتين الإنكليزية والصربية).
مشاركة :