بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهوداً كبيرة لبناء الإنسان المسلم على القيم والأخلاقيات الرفيعة لكي تستقر حياته، ويحقق طموحاته، ويؤدي رسالته في الحياة على الوجه الأكمل، ويتعامل مع الآخرين بكل ثقة وحب وتقدير واحترام متبادل، ويسهم بفاعلية في بناء ونهضة المجتمع الذي يعيش فيه، ويواجه بقوة وصلابة كل التجاوزات الأخلاقية، انطلاقاً من رسالته في الحياة كإنسان يبني ويعمر ويواجه كل صور الخروج على منهج الله. والرسول في عنايته بالتربية الأخلاقية للإنسان جاء بكل ما هو متحضر وراق وإنساني من السلوك، وسما بأخلاق أتباعه فوق كل الصغائر، ورسم للإنسان حياة راقية تغلفها كل المعاني والآداب الراقية. من الأخلاق الفاضلة التي أشاعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشرها بين الناس إحسان الظن بالآخرين، وعدم التسرع في اتهامهم من دون أدلة وبراهين إدانة واضحة، وهذا هو السلوك الراقي لأصحاب الأخلاق العالية والنفوس الطيبة.. أما هؤلاء الذين ينظرون إلى الآخرين بريبة وتوجس وخوف ويتسرعون في اتهامهم بما ليس فيهم، فهم بعيدون عن عدالة الإسلام وأخلاقياته الرفيعة. وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح من سوء الظن، فقال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا. وهو إلى جانب هذا النهي الواضح عن سوء الظن كان يعلم المسلمين حسن الظن وعدم الجري وراء الأوهام، فقد جاءه رجل يقول: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ فقال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ (يعني فيه سواد) قال: إن فيها لأورق. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق. وموقف الرسول الكريم من إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم مستمد من قول الحق سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ. من الكبائر يقول د. محمد عبد الفضيل القوصي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: كثير من الناس الآن لا يتخلقون بأخلاق الرسول الكريم ولا يقتدون به في إحسان الظن بالآخرين، ولذلك تجد معظمهم يسارعون إلى سوء الظن، والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون الأعذار للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتصيدون الأخطاء ويحولون الخطأ إلى خطيئة، وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن من أهم الأخلاقيات التي جاء بها دينهم الإسلامي ورباهم عليها نبيهم العظيم إحسان الظن بالناس، فسوء الظن سلوك حذر منه الله ورسوله. ويصنف د. القوصي سوء الظن بأنه من الكبائر سواء كان سوء ظن بالله، وهو الأعظم إثماً وجرماً من كثير من الجرائم، لتجويزه على الله تعالى أشياء لا تليق بجوده سبحانه وكرمه.. أو كان سوء ظن بالمسلمين، ذلك أن من حكم على غيره بشر بمجرد الظن حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه، وإطالة اللسان في عرضه، والتجسس عليه وكلها مهلكات منهي عنها. ويؤكد عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أن واجب المسلم أن يحسن الظن بخالقه، لأن سوء الظن بالله من الأمور المحرمة، فهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.. كما أن حسن الظن بالمسلمين هو أمر واجب أيضاً، لأن سوء الظن بالمسلمين حرام خاصة هؤلاء الذين يكون ظاهرهم العدالة والصلاح. ويوضح أن المسلم الذي يتخلق بخلق الرسول ويحسن الظن يعيش في رعاية خالقه ويحظى بفضل ربه، فإن أحسن الظن بإجابة الدعاء عندما يدعو ربه استجاب الله دعاءه، وإذا أحسن الظن بربه عندما يتوب إلى الله، يقبل الله توبته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. ومن مكاسب حسن الظن بالله أن الله عز وجل يغفر ذنوب عبده إذا أخطأ وأراد أن يتوب ويرجع إلى الله تعالى، حتى ولو عاد للذنب مرة بعد أخرى ما دام في كل مرة كان صادق العزم وأراد أن يتوب وأقبل عليها، فأثر حسن الظن يعود بالنفع على الإنسان في حياته الدنيوية وأيضا في آخرته.. ففي الدنيا يثمر حسن الظن تفريج الكروب، وفي الآخرة يثمر حسن الظن غفران الذنوب، وبقدر حسن ظن الإنسان في رحمة ربه يكون نصيبه من فضل الله تعالى وكرمه، والإنسان الذي يحسن الظن بخالقه يوقن أن الله سبحانه قريب منه ويحقق له ما يريد. المساس بأعراض الناس لذلك يحث عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر كل مسلم على أن يتخلق بحسن الظن، فلا يظن الإنسان سوءا بإخوانه، وأن يتذكر دائماً قول الحق سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ.. فهذه الآية الكريمة تجرم المساس بأعراض الناس بسبب سوء الظن، فالمسلمون في علاقاتهم ببعضهم يجب أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وبذلك تختفي من بينهم كل أسباب الفرقة، وينتفي كل ما يزرع في النفوس العداوة والبغضاء، ولكي يتم ذلك أوجب الإسلام على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، فلا يحل لأحد منهم أن يتهم غيره بفحش، أو ينسب إليه الفجور، أو يسند إليه الإخلال بالواجب، أو النقص في الدين أو المروءة، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحط من مكانته ما لم يكن هناك سبب يوجب تهمته والتشكيك به. ومن صور التخلق بحسن الظن- كما يقول د. القوصي- التثبت من الأخبار والمعلومات المتداولة، وتجنب تصديق الأوهام والشائعات الكاذبة وهنا يقول الحق سبحانه: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. أي لا تقل إني سمعت والحال أنك لم تسمع، ولا رأيت والحال أنك لم تر، ولا علمت والحال أنك لم تعلم، ولا تتبع الظن في أي قضية من القضايا فتصدق ما لا يتفق مع الواقع، ولا مع العلم الصحيح، بل استعمل الوسائل الموصلة إلى الحقيقة، فإنك مسؤول أمام الله عن ذلك كله. إشاعة الثقة يقول د. طه أبو كريشة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: التوجيهات النبوية بتجنب سوء الظن تشيع الثقة والمحبة بين الناس، وهي دائماً تحث على تغليب حسن الظن فيما بينهم، وتدفعهم إلى أن يبنوا أحكامهم على الظواهر لأن الذي يعلم البواطن والسرائر هو الله تعالى. لذلك يجب على كل مسلم الابتعاد عن سوء الظن بالآخرين، وعليه أن يتذكر دائما دعاء المؤمنين الصادق: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. لقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟.. فقال: كل مخموم القلب صدوق اللسان قيل: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب: قال: هو التقي الذي لا إثم في قلبه ولا بغي ولا غل ولا حسد، وهذا هو شأن المسلم في التعامل مع الآخرين حيث نهى صلى الله عليه وسلم أتباعه عن أن يبلغوه أخباراً لا يحب أن يسمعها فقال: لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر. إن من واجب الإنسان العاقل أن يتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا أتباعه في كل زمان ومكان إلى تغليب حسن الظن على سوء الظن ونهاهم عن تتبع الزلات والعورات فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر من أمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه طلب الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته.. بل نهى صلى الله عليه وسلم كل مسؤول أن يجعل سوء الظن أساس المعاملة لمن هو مسؤول عنه فقال: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم أي لا يصح لمن هو في وظيفة قيادية أن يعامل من هم تحت مسؤوليته معاملة تحملهم على سوء الظن فيما بينهم، لأنه لو فعل ذلك أفسدهم، وجعلهم لا يثق أحدهم بالآخر، فيترتب على ذلك ضياع مصالح الأمة. اليقظة المطلوبة والدعوة إلى حسن الظن لا تعني أبداً الغفلة عن مخططات الأعداء ومكرهم وسوء نواياهم، ولكن تعني اليقظة والحذر من دون شطط أو تحميل الأشياء أكثر مما تحتمل، فكم من شائعات كاذبة وتهم فاسدة قامت على سوء الظن من دون مبرر، وكان مبعثها الأحقاد والأهواء والابتزاز، وغير ذلك من الصفات السيئة التي تتنافى مع كل خلق كريم، ومع كل سلوك حميد. سألت د. أبو كريشة: ماذا يفعل المسلم تجاه هؤلاء الذين يتلونون ويرتكبون المعاصي ويتحايلون على حقوق الناس ويضعون أنفسهم موضع الشبهات.. هل يأثم من يسيء بهم الظن؟ قال: لا، أمثال هؤلاء يستحقون سوء الظن، فالذين يعرفون بمعاصيهم وتجاوزاتهم الأخلاقية، أو يشتهرون باقتراف السيئات، فلا لوم على من أساء به الظن، لأن الظن هنا أصاب أهله وأصبح في محله، بل إن البعض من العلماء يعتبرونه من تمام الإيمان. وقد روي عن عمر أنه قال: من دخل مداخل السوء فلا يلومن من أساء به الظن. وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن حسن ظن الإنسان دليل على حسن علاقته بربه وحسن عبادته، فقال في الحديث الشريف: حسن الظن من حسن العبادة، ومن هنا لا يجوز أن يوجه إنسان لإنسان تهمة لا دليل عليها، واتهام الغير من دون دليل يجلب للإنسان الإثم والعقوبة الإلهية. لكن النهي عن سوء الظن لا يعني أن يتعامل الإنسان بحسن نية طوال الوقت، وألا يحكم عقله فيما يحيط حوله، وأن يترك المعاصي وصور الخروج على تعاليم الإسلام ويبرر سلوكيات أصحابها دون أن يقول كلمة الحق أو يغضب لانتهاك الحرمات وارتكاب المعاصي.
مشاركة :