أعود بالذاكرة إلى ماض ليس ببعيد لأتذكر كيف بدأت رحلتي مع الأدب..هل كنت أقف على رصيف القطار في إنتظار أن أجد لنفسي مقعدا بين كل هؤلاء الأدباء الكبار أم كانت تلك الرحلة مجرد محاولة لتحقيق شغف سكنني منذ أن بدأت أحبو في عالم الثقافة. سألت نفسي حين طُرح علي السؤال، من أين أبدأ الحديث عن رحلة فتاة صغيرة كان لديها حُلم وشغف بعالم القراءة والكتابة.. الإجابة ببساطة هي..سأبدأ من حيث بدأ الشغف.. رحلة معرض الكتاب: منذ أن أتممت عامي الرابع باتت رحلتي إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب هي الرحلة المقدسة التي أصبحت عادة لم أقطعها يوما حتى اليوم، كانت أمي هذه السيدة المثقفة الأنيقة التي كنت ولازلت أعتبرها قارئة عظيمة إرتحلت بجدارة إلى العالم كله عبر صفحات الكتب، كانت تحدثنا ونحن أطفال عن معرض الكتاب وكأنه عيد ننتظره بشوق من عام إلى عام، عيد ثقافي نرتدي فيه أجمل الثياب ونوفر من مصروفنا الشهري لكي نتعلم قيمة الكتاب، وقتها كان المعرض مكانه في أرض المعارض بالجزيرة. أتذكر أنني كنت أتجول وسط الروايات بسعادة غامرة، أحبو داخل مدن الحكايات.. أعود إلى المنزل وأنا أحتضن الكتب لأغفو في المساء على صوت أمي وهي تحكي لي وتدخلني مدن الجان والسحرة وعرائس البحور.. نشأت في بيت تتراص فيه الكتب من الأرض إلى السقف بعد أن إكتظت بها رفوف المكتبة، إبنة لسيدة شغوفة بالكتب، تأتيها دواوين نزار قباني من لبنان رأسا حيث لم تكن موجودة بالقاهرة، عشقها لأستاذنا نجيب محفوظ دفعها للحصول على نسخة من رواية "أولاد حارتنا" الممنوعة أنذاك بمبلغ خيالي، بل ووقفت تناقشه ذات ليلة حين إلتقيناه صدفة وهو مبهور بثقافتها ودقتها في نقد ما كتب. هكذا حين وصلت إلى عامي الرابع عشر أعطتني أمي أول رواية طويلة لأقرأها وكانت رواية "أنا حُرة" للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس وأول ديوان شعر للشاعر الرائع نزار قباني بعنوان "قالت لي السمراء"..من هنا بدأ شغفي وولعي بالقراءة وقعت في غرام الكلمة، وعيت جمال المعاني والكنايات والوصف في اللغة العربية. أصبح موضوع التعبير الذي تكلفنا به معلمة اللغة العربية هو التحدي الذي أشتاق إليه، فكنت أحصل فيه على أعلى درجات وأقف في طابور الصباح لأقرأه أمام المدرسة كلها بكل فخر.. على الرغم من أنني كنت طالبة في مدرسة إنجليزية إلا أنني وقعت في غرام اللغة العربية، وتحولت القراءة إلى شغف كبير لم أستطع مقاومته. بداية الرحلة: تعودت أن أجلس بالساعات أمام شاطئ البحر في الإسكندرية أرقب الأمواج وفي يدي ورقة وقلم أكتب خواطر عن الحياة، عن الحب وعن الطبيعة على صوت عبد الحليم حافظ، أتذكر أول قصة قصيرة كتبتها وكانت بعنوان "هجرة الآثار" فكرة راودتني عقب زيارة للأقصر وأسوان وأنا في المدرسة، أطلقت فيها العنان لحماس الشباب وطرحت سؤال على قارئها: وماذا لو هاجر الهرم وأبو الهول وتمثال رمسيس من جراء الإهمال؟ كانت أمي أول قرائي وكل جمهوري، أفصحت لها بأنني أحلم بأن أكون يوما مثل الأدباء الكبار، إحسان عبد القدوس..يوسف السباعي..نجيب محفوظ ويوسف إدريس..شجعتني وباركت الفكرة، ثم قرأت لي أول محاولاتي في الكتابة وأسدتني النصيحة بأن أقرأ أكثر لأكتب أفضل، كما نصحتني بأن ألتحق بكلية الطب التي تمنيت أن ألتحق بها دوما حتى لا يرتبط قوت يومي بقلمي، وأن يبقى الأدب شغفي لأن الشغف يصنع الموهبة والموهبة هي سر النجاح.. هكذا تعودت أن أكتب الخواطر وأريها إياها، ثم إنتقلت إلى القصة القصيرة وكانت هي دليلي لأستمر..دفعتني للمزيد من الكتابة..ومن القصة القصيرة للرواية ومن الرواية إلى الصحافة..ومن الصحافة إلى الصالونات الثقافية. هكذا بدأت رحلتي مع الأدب الذي أصبح شغفي ودنياي. . من الهواية إلى النشر: نشرت أول مجموعاتي القصصية مع الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٩٥ ولازلت أتذكر يوم أمسكت بيدي تلك المجموعة، ودون أن أشعر إحتضنتها وكأنها وليدي بعدما كانت مجرد حبر على ورق لتصبح تلك عادتي حتى اليوم. بعد صدور مجموعتان قصصيتان من الهيئة المصرية العامة للكتاب، إنتقلت إلى النشر الخاص، وإلى كتابة الرواية لتصبح اليوم حصيلة أعمالي الأدبية ٦ مجموعات قصصية و٤ روايات. لم أكتفي بكتابة الرواية بل أخذني الشغف من كوني كاتبة إلى إهتمامي للقيام بدور ثقافي، وتوليت إدارة صالون إحسان عبد القدوس الثقافي وأطلقت برنامج ثقافي أخر لإستضافة الأدباء يحمل عنوان (كاتبان وكتاب).. كان كلما قابلني أحد قرائي يسألني، لماذا تشغلين نفسك بالكتابة الصحافية وإدارة الصالون وهو وقت ضائع..وكانت إجابتي دائما، الإضافة الحقيقية هي أن نترك بصمة وأن نفعل ما نحب دون النظر إلى ما نبذله من جهد، فالثقافة ليست إلا شغف كانت ولازالت عالمي الصغير.. أصبحت قناعتي اليوم أن الكتابة تسكن الكاتب، فتصبح كيانه الذي يتماهى، لتتحول مع الوقت الكلمات إلى هوس، لا يحس بهما غير الكاتب..المشكلة الوحيدة التي قد تواجه أصحاب الأقلام أثناء الرحلة الطويلة هي الجمود الذي قد يصيب الأصابع حين تستعصى كتابة فكرة، هنا يجب أن يطارح عقله عله يأتيه بجديد. أقتاد في هذا الفضاء الأدبي الرحب بالعديد من الأدباء الكبار الذين دفعهم شغفهم ليتربعون على عرش الأدب أعوام طويلة وعلى رأسهم الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل الذي يوصف بأنه "دون جوان الكتب"، وهو لقب يعبر عن مدى عشقه للكتب والقراءة، لدرجة أنه يعيش بين أكثر من أربعين ألف مجلد تحتويها مكتبته، فهو يكتب عن نفسه متمثلا في ذلك الأمير الفارسي الذي يحدثنا عنه في «يوميات القراءة» والذي كان يصطحب مكتبته الضخمة على ظهر قافلة من الجمال مصنّفة حسب الأحرف الأبجدية. العظيم جابريل جارسيا ماركيز أيضا يقول: "أي سرٍ هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوس يمكن لكائن بشريٍ أن يموت من أجله، أن يموت جوعًا، أو بردًا، أو من أي شيء آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه" مصدر الإلهام: تجيب الروائية التشيلية المتميزة إيزابيل اللندي عن السؤال الذي يوجه إلي في كل ندوة أو مناسبة أدبية وهو بالمناسبة سؤال صعب لكن إجابتي عنه لا تختلف أبدا عن إجابتها: (( كلّ الأحداث والأشخاص الذين عرفتهم في حياتي هم مصدر إلهامي الوحيد، لهذا أحاول العيش بشغف وأن أتعرّض لجميع الأهواء دون خوف من الآلام التي لا مناصّ منها، فتجارب اليوم، هي في الغد ذكريات، هي الماضي الذي يُنسّم وجودي. إذا تطلّعت إلى حياة مستقرّة فلن أستطيع الكتابة، وماذا سأكتب؟ ذاكرتي ذاكرة المغامرة والحبّ والألم والفراق والغناء والدّموع)) أما أنا فلازال شغفي بالكتابة هو دنياي ونجاحي والسبب الأكيد لبقائي على الساحة برغم كل الصعوبات والتحديات.. وكما قال ستيف جوبز: "الشخص الشغوف يستطيع تغيير العالم" فهل نستطيع؟!. [email protected]
مشاركة :