لم يكن متوقعاً أن ينجح الانقلاب الذي قام به قائد الحرس الرئاسي في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني على حكم الرئيس المنتخب محمد بازوم بالسهولة التي حصلت. فقد تبيّن أنّ قائد الحرس الرئاسي كان يحظى بدعم من معظم قطاعات الجيش النظامي النيجري، مما سهّل عملية الانقلاب التي حصلت بسلاسة أمنية، وإن لم تمرّ مرور الكرام في باريس ومعظم العواصم الغربية وفي مقدّمها واشنطن. طبعاً المُستهدف هو الرئيس محمد بازوم المقرّب من فرنسا ،لكن في الخلفية تقف باريس المستهدفة بمصالح استراتيجية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لوجودها التاريخي في غرب إفريقيا، التي كانت في ما مضى جزءاً من امبراطورية فرنسا الاستعمارية، ثم استمر نفوذ فرنسا الكبير في مختلف الدول التي استقلّت عنها بدءاً من ستينات القرن الماضي. وبقيت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في تلك البلدان، كما أنّها ورثت عن فرنسا عملة مشتركة كانت الفرنك الإفريقي، فضلاً عن مصالح اقتصادية هائلة لفرنسا،وانتشار عسكري ظلّ عقوداً من الزمن ميزان الاستقرار في تلك البلدان. لكن ما تخطّى فرنسا هذه المرّة أنّ الانقلاب العسكري وإن بدا للوهلة الأولى نتيجة لخلاف محلي ذي طابع عسكري يتعلّق بحرب ولاءات بين الرئيس بازوم وقائد الحرس الجمهوري، سرعان ما ترك مجالاً للشكوك في تورّط روسي محتمل، حرصت على عدم تأكيدها الولايات المتحدة التي تمتلك قاعدة عسكرية في شمال البلاد، تنطلق منها طائرات ومسيّرات لمراقبة منطقة الساحل التي تعجّ بجماعات إسلامية متتطرّفة تتنقل فوق مساحات مترامية الأطراف من حدود تشاد شرقاً إلى النيجر ومالي غرباً. فيما مراقبون تحدثوا عن معلومات بتورّط صيني خلف الستارة وغير مباشر، لاسيما أنّ لبكين مصالح نفطية، وخط أنابيب نفط يعبر النيجر من حقل اغاديم في أقصى الشرق جنوباً نحو ميناء سيمي في جمهورية البينين، أتى متزامناً مع صراع روسي– فرنسي على آخر دولة في منطقة الساحل غرب إفريقيا، ظلّت فرنسا تتمركز فيها بعد انقلابي مالي وبوركينا فاسو في العامين الماضيين، ومطالبة الانقلابيين في البلدين بانسحاب القوات الفرنسية المرابطة فيهما منذ أعوام طويلة. لم يكن غريباً أن تجتمع مجموعة دول "ايكواس" الاقتصادية لمنطقة غربي إفريقيا وتضمّ 15 بلداً التي تتمتع فيها فرنسا بنفوذ مُعتبر، وتندّد بالانقلاب في النيجر وتُطلق تهديداً مبطناً بالتدخّل العسكري في حال لم تتمّ إعادة الرئيس المعزول محمد بازوم إلى منصبه. لكن المفاجأة أتت عندما أصدر قادة الانقلاب في كل من بوركينا فاسو ومالي بيانين متزامنين، عارضا أي تدخّل عسكري إفريقي او أجنبي (فرنسي) في النيجر، واعتبروه في حال حصوله بمثابة إعلان حرب ستتمّ مواجهته معاً. كما أنّ سلطات غينيا سارعت إلى رفض أي عقوبات، او إجراءات قسرية بحق قادة الانقلاب في النيجر. وبدا أنّ ثمة انقساماً في الإقليم يزيد من تعقيدات الموقف الفرنسي المأزوم منذ أن بدأت روسيا إما مباشرة او عبر مجموعة مرتزقة "فاغنر" تحقّق أهدافاً في مرمى باريس، وتدفع إلى ازاحتها في مالي او بوركينا فاسو ، او حتى غينيا. هذه المعادلة صعّبت على باريس إمكانية إنقاذ حكم الرئيس بازوم . فقدرات الجيش الفرنسي محدودة على هذه المسافة البعيدة من فرنسا. كما أنّ تقبّل دول الإقليم بالتدخّل الأجنبي لم تعد كالسابق. وبات للعديد من الأنظمة العسكرية الانقلابية الجديدة في الإقليم بدائل عن العلاقة مع فرنسا. فروسيا حاضرة، والصين كذلك. وكان لافتاً في هذا المجال أن يُنفّذ الانقلاب بالتزامن مع انعقاد قمّة روسيا مع دول إفريقية في مدينة سانت بيترسبرغ الروسية، حضرها أكثر من عشرة رؤساء أفارقة. ومن هنا لم يعد أمام فرنسا سوى السير في مسارين. الأول دبيلوماسي للحدّ من الخسائر، وإنقاذ العلاقات مع النيجر وجيرانها مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وإعادة تصدير معدن اليورانيوم المستخرج من النيجر، ويغطي 70 في المئة من حاجات فرنسا بالطاقة. أو ولوج المسار العسكري إنما خلف الولايات المتحدة التي يمكن أن ترى في انقلاب النيجر وجهاً آخر لحرب الغرب بالواسطة مع كل من روسيا والصين (الحرب الباردة الجديدة). هنا يتغيّر المشهد لأنّ القضية أكبر من مجرّد نفوذ فرنسي يجب إنقاذه. إنّها مواجهة لعملية استحواذ روسية – صينية متدرّجة للقارة الإفريقية. ونتائجها الأولية حتى مقلقة جداً لواشنطن زعيمة العالم الغربي. فهل تسارع هذ الأخيرة إلى التدخّل لمنع انهيار النفوذ الفرنسي في غربي إفريقيا بفعل نظرية "الدومينو" ؟
مشاركة :