سيزار باييخو.. عذوبة القصيدة في خفوت المعنى!

  • 8/4/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

رويداً رويداً، وأنت تقرأ قصائد الشاعر والكاتب سيزار أبراهام (البيرو 1892- 1938)، اطرق أبواب قصائده أولاً، ودعها تتهاوى بين مسامعك، وقف بين مجاميع الأسئلة العابرة نحو عناوين شاعريته الراكدة بأعماق الروح. ويُقال إن كتابة القصيدة فعلٌ نبيلٌ بامتياز، أما الكتابة عنها فما هي إلا خيانةٌ صغرى! فالشعر لا يُمكن تفسيره! إلا أن التبرير الوحيد لمن يتغنون بمعرفة دلالة القصيدة، أنهم يبحثون من خلالها عن الطمأنينة، مثلما يفعلون بسماع الموسيقى وحوار الأصدقاء، والمشي حافي الأقدام على الرمال البلورية بالقرب من المحيط الشاسع. وكعادة الأشياء العميقة فهي نادراً ما تهديك صوتها، فكل حضورها عبارة عن صمت، همسٌ يولد في الروح ويتلاشى، بوصفها علامة في سراب فسيح، دورها الوحيد أن تهديك الطريق إلى يقظة خاصة بك، فأنت الوحيد من يملك حقيقتك، وهكذا تفعل قصائد سيزار باييخو في واقعيتها الاجتماعية واكتشافاتها الوجودية، ففي كل حواراتها تجد هناك صراعاً قابعاً في الفضاء العام للقصيدة، ومحاولة راسخة لتكثيف الشعور والتحرر منه في ذات الوقت، إنها مسألة متعلقة بالزمن في السياقات الشعرية، فالتساؤلات فيها، إنما هي ترويض حدسي للنفس، لتمرر الألم بوصفه حالة دائمة، ويمكن استحضاره في التجربة الإنسانية، مثلما هي الطيور المهاجرة في عودتها للأراضي البركانية بعدما ينتهي الانفجار، حيث تستعد الأرض البركانية بمعادنها الصالحة للزراعة لأن تنبت حقولاً خضراء ممتدة، حياة عشبية كاملة بعد لحظة دمار عابرة، وبذلك تكون عذوبة قصيدة سيزار باييخو في خفوت المعنى، وتجلي النشوة الشعرية. أعماق الروح وإحدى أبرز قصائد الشاعر سيزار باييخو، (مواليد مدينة سانتياغو دي تشوكو في البيرو)، هي «النذراء السود»، وقد قدمها للعربية المترجم صالح علماني، ويقول فيها: «هناك ضرباتٌ في الحياة. ضرباتٌ عنيفةٌ.. لستُ أدري! ضرباتٌ مثل غضب: كأنّ رجعَ كلِّ الآلامِ حيالَها يترسبُ راكِداً في أعماقِ الرُّوح.. لستُ أدري! إنها ضرباتٌ ضئيلةٌ: ولكنها ضرباتٌ.. تشقُّ أخاديدَ قاتمة في أشدِّ الوجوه فظاظةً وأكثر الظهورِ صلابة». كل شيء بدا في سيرورة قصيدة سيزار مألوفاً، من خلال الحديث عن الشعور ما بعد الألم، إلا أن غياب اليقين في التكهن بمصدر تلك الضربات، ومساكن وجودها في الروح، أبقى القصيدة هائمة في اتساعها اللامحدود، فمن يدري كيف تشكل الألم الوجداني في بذرته الأولى، وكيف نما بسواعد مخلصة، وانضباط لافت من الإنسان، حتى تجذر في أم التفاصيل الصغيرة. ويتابع الشاعر سيزار باييخو: «الإنسانُ.. بائسٌ.. بائسٌ! يلتف، بعينين -مثلما نفعلُ حين تربتُ على كتفنا راحةٌ منادية- يلتفت بعينينِ مجنونتين. يجتمع في نَظرته كَلُّ ما عاشه، مثلَ مُستنقعِ خطيئة راكد، هناك ضَرباتٌ في الحياة. ضرباتٌ عنيفة.. لَست أدري!»، وهنا دلالة «العينين»، نافذة الروح، فهي ترى بكامل قواها وضوح الألم في كينونة الأشياء وأبجدياتها، وتختار كيفما يكون هذا الاختيار، فنحن لا ندري مثلما صرح الشاعر سيزار باييخو، متى تلقي جلّ بالها في استقبال الضربة، باعتيادية مفرطة مثلما تشرق الشمس في الصباح يومياً، وتتفتح الأزهار الموسمية، هكذا بعفويتها الإبداعية الخالصة، دونما تحفيز، دونما دعوة مسبقة. رحيل المعنى وجاء اللطف الممتزج بفلسفة حضور الآخر للشاعر سيزار باييخو مثيراً للاهتمام ومسكوناً بالرغبة الحرة، في قصيدة «تراودني في بعض الأيام»، وتحديداً عندما يقول: تُراودُني في بعض الأيام رغبةٌ جامحة. في أن أحبّ.. أن أقبّلَ الحَبيب من وجهيهِ وتأتيني من بعيدٍ رغبةٌ بينِّةٌ ورغبة أخرى من أن أحب طوعاً أو عُنوة من يكرهُني»، إلا أن قصيدته «يقولون لي لم يعد هناك أحد في المنزل»، جاءت بمثابة مهادنة لأصالة الوحدة في التجربة الإنسانية: «لا أحد يعيش في المنزل. فالجميعُ قد ذَهبوا. الصالةُ. حجرة النوم. الفناءُ كلها خاوية. لم يبق أحدٌ. فالجميعُ غادروا. وأنا أقولُ لك: حينَ يذهبُ أحد.. يبقي أحداً. النقطُة التي مّر منها إنسان، لن تَبقى وحدها. الوحدةُ هي بشرية فقط. هي المكانُ الذي لم يمرّ منهُ إنسان»، وفي ذات القصيدة، يوسع الشاعر سيزار دائرة البيت في احتمالاته المعيشة، ويصفها ككتلة من الأبدية، مستمرة في تأثيرها وفعلها حتى وإن رحل «المعنى»، ومن هنا فإنه لا أحد يخرج من البيت، ولكننا قد نضل الطريق إليه دائماً: «فالخطواتُ ذهبت.. وكذلك القبلات، والصفحُ والذنوبُ. وبقيتْ في البيت القَدمُ.. الشّفتان، العَينان، القَلبُ. النفي والتأكيدُ. الخيرُ والشر تفرّقَت مبعثَرةً».

مشاركة :