على امتداد العقود الثلاثة الماضية، تقاطعت الخطة الأميركية مع التوجهات الاستراتيجية الإيرانية والإسرائيلية تجاه الكيانات العربية القائمة نحو تغيير ما يمكن منها وإلغاء هويتها الراهنة. في حرب العراق الأولى، كرست الولايات المتحدة إقليم كردستان العراقي وهيأته للانفصال، ثم استكملت تقسيم العراق بعد احتلاله على قاعدة تكريس الكيان الشيعي. وفي سورية، وبعد أن نجحت في إدارة حرب أهلية أدت إلى تدمير البلد، ها هي تسعى إلى «سورية المفيدة» القائمة على كيان طائفي ومذهبي، إضافة إلى هندسة الكيان الكردي في الشمال. سبق انحياز أميركا إلى «الإخوان المسلمين» في مصر. أما إيران، فتلاقت موضوعياً مع الخطة الأميركية من خلال التدخل في الكيانات الوطنية العربية، والعمل على الفرز الطائفي والمذهبي فيها. لم يخف القادة الإيرانيون انهم يحتلون اليوم أربع عواصم عربية، فقد تمكنت القوى الموالية لها في لبنان من تعليق البلد وشل مؤسساته، وفي سورية تخوض إيران حربها على قاعدة مذهبية واضحة، ويدعي مرشدها أن الحرب السورية هي «حرب جبهة الإسلام ضد الكفر»، وفي اليمن نظمت انقلاباً بقيادة الحوثيين من أجل هوية جديدة مذهبية، وفي البحرين مارست سياسة قائمة على قاعدة التحريض المذهبي، وفي فلسطين التي كانت ولا تزال الحلقة المركزية في عروبة المنطقة، عملت إيران من خلال حركة «حماس» على تحويلها قضية مذهبية، وسهلت للحركة الانقسام الفلسطيني ودعمته ولا تزال تسعى لمنع قيام الوحدة الفلسطينية. أما الاستراتيجية الإسرائيلية فهي قائمة منذ قيام دولة اسرائيل على التدخل لمنع التوحيد العربي، وعلى خطة ترى ضرب الكيانات الوطنية العربية القائمة وتفتيتها إلى دويلات متناحرة إثنياً وطائفياً ومذهبياً، بما يجعل الكيان الإسرائيلي القائم على هوية دينية الكيان الأقوى دائماً. لا ننسى خطتها في لبنان عام 1982 لإعادة تركيب البلد على قاعدة من الهرم الطوائفي. لم يعد الأمر قائماً على تخمينات حول التوجه لتفكيك الكيانات العربية بعد أن بات مبضع التقسيم يقوم بجراحاته على الأرض. أنتجت الاتفاقات التي أُجريت في القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى مجموعة كيانات عربية، بعدها تم تركيبه على قاعدة غلبة طائفية أو إثنية. لكن على امتداد قرن، أمكن هذه الكيانات، على رغم الإعاقات التي تحملها في بناها، أن تنتج مجتمعات قائمة بذاتها، وأن تكوّن سلطات ومؤسسات في كل بلد. المعضلة المركزية في أن هذه الكيانات حكمتها أنظمة استبدادية عطلت إمكان تحقق اندماج اجتماعي على قاعدة تسويات تضمن حقوق المجموعات القائمة. إضافة إلى الاستبداد القائم على سجن الشعوب العربية ومنعها من ممارسة السياسة وكم الأفواه وتعطيل الحياة السياسية، فشلت هذه الأنظمة في تحقيق تحسن في مستويات المعيشة وإيجاد حلول للمعضلات الاجتماعية والاقتصادية، وهي أمور تراكمت على امتداد عقود، وخلقت احتقاناً سياسياً واجتماعياً في كل بلد عربي، كان يجد ترجمته بالانفكاك عن الدولة لمصلحة العصبيات الأصلية التي كان كل قطر يتكون منها. لم تكن الانتفاضات العربية سوى الابنة الشرعية لانفجار أنظمة الاستبداد القائمة في أكثر من قطر عربي، ولم يكن غريباً أن تصعد إلى السطح العصبيات الطائفية والمذهبية لتقدم نفسها بديلاً عن الدول الوطنية القائمة. لا يفيد في الكلام تحميل الانتفاضات العربية مسؤولية الفوضى العربية القائمة، فهذه الفوضى تتحمل مسؤوليتها أنظمة الاستبداد أولاً، ثم التدخلات الأميركية والإيرانية والإسرائيلية ثم الروسية التي صرح وزير خارجيتها مؤخراً بـ «احتمالات تغيير الكيانات في الشرق الأوسط»، في الإفادة من الفوضى القائمة لتنفيذ مخططات هذا المحور المتحالف موضوعياً على هدف إعادة تركيب المنطقة، خلافاً لما قامت عليه سابقاً. وأخطر ما في هذا المخطط المسّ بالهوية العربية للمنطقة، وجعل العنوان الطائفي والمذهبي يتصدر كل الحلول. * كاتب لبناني
مشاركة :