أظهرت الأبحاث قدرة تواصلية مرتفعة بين مناطق المخ المُختلفة في سياق دراسة تأثير اللغة الأم على المخ، فمثلًا برز تآلف شقّي الدماغ الأيمن والأيسر وزيادة نشاطهما لدى الناطقين باللغة العربية، وفُسِّر ذلك بسبب التعقيد الدلالي لكلماتها، أمَّا اللغة الألمانية - وهي النموذج المُقارَن - فكان نشاط المخ مختلفًا مُقتصرًا على كل شقٍ من المخ على حدة دون ترابطٍ بين كليهما، ما خلَّف تباينًا في القدرات المعرفية والتفكير بين الناس. تُعالَج اللغة دماغيًا بوساطة شبكة معقدة من مناطق الدماغ المترابطة وظيفيًا، والتي تكون غالبًا في الفصّ الأيسر منه، بل أظهرت الدراسات، حسب موقع "medicalnewstoday" أنَّ بعض مسارات المخ مُرتبطة بمعالجة جوانب مُعيَّنة من اللغة. فمثلاً تُؤثِّر معاني الكلمات، والبنية النحوية لها، إضافةً إلى الأصوات المصاحبة للغة الأم، على مسارات الدماغ؛ إذ تُعالَج معاني الكلمات، وبنيتها النحوية في مناطق المخ الموجودة في الفص الأيسر، بينما المعلومات اللغوية الأخرى كالأصوات تُعالَج في الفص الأيمن، أو في فصَّيّ الدماغ على حدٍ سواء. ثُمَّ تُدمَج هذه المعلومات بعد ذلك مع غيرها مِمَّا يتعلَّق بمعاني الكلمات وبنيتها النحوية في الفص الدماغي الأيسر. تُوجَد 7000 لغة تقريبًا حول العالم، ومع ذلك فنفس مناطق المخ هي المسؤولة عن فهم وإنشاء كل هذه اللغات، فالبشر ذوو اللغات الأم المختلفة، لديهم أنماط تنشيط دماغي متباين خلال معالجة اللغة، وهذه الأنماط المتباينة عائدة إلى الاختلافات في معاني الكلمات، وبنيتها النحوية، وخصائصها الصوتية المُتعلِّقة باللغات المنطوقة من قبل أصحابها. وقد بيَّنت الدراساتُ وجود اختلافات بنيوية في أدمغة الأفراد الذين لديهم لغات محلية مختلفة، ما قد يُدلِّل على أنَّ اكتساب لغة واحدة محلية في الطفولة، يُحفِّز تغيُّرات في البنية الدماغية، تختلف عن غيرها ممن لديهم لغات أخرى مختلفة. ينقسم نسيج المخ إلى مادة رمادية، وبيضاء: اقرأ أيضًا: التفكير المنطقي.. ما هو؟ وما أنواعه ومراحله وخصائصه؟ كشفت دراسةٌ سابقة، حسب موقع "medicalnewstoday"، أنَّ المُتحدِّثين باللغتين الإنجليزية والصينية، لديهم اختلافات ملحوظة في كثافة المادة الرمادية والبيضاء في مناطق المخ المسؤولة عن معالجة اللغة. وقد بيَّنت دراساتٌ أخرى اختلافات في أنماط مسارات المادة البيضاء التي تصل بين مناطق المخ لدى المُتحدِّثين باللغات الإنجليزية، الألمانية، والصينية. قارن الباحثون بين الاختلافات في اتصال مناطق المخ المُعالِجة للغة لدى أناسٍ يتحدَّثون بالعربية والألمانية كلغاتٍ أم لهم، وقد فضَّل الباحثون هذين اللغتين؛ بسبب الاختلاف الهائل بين كلماتهما في الدلالة والبنية. فاللغة الألمانية أكثر تعقيدًا من اللغة العربية من ناحية التركيب النحوي، بينما اللغة العربية أوضح من الناحية الدلالية لمفرداتها، كما أنَّ الكلمات العربية تُحذَف منها حروف العلة القصيرة، كما يعتمد معنى ومنطوق الكلمات العربية على السياق. كذلك، فإنَّ النصوص العربية تُكتَب وتقرأ من اليمين إلى اليسار، بينما النصوص الألمانية تُقرأ وتُكتَب من اليسار إلى اليمين. وتمشيًا مع هذا، فقد أظهرت الدراسات تنشيطًا هائلًا في مناطق المُعالَجة النحوية من المخ خلال فهم اللغة الألمانية، وأبرزت دراساتٌ أخرى نشاطًا أكبر في مناطق الدماغ المُعالِجة للدلالات خلال فهم اللغة العربية، كما اعتمدت هذه الدراسات على فحص الدماغ بوساطة أشعة الرنين المغناطيسي. استخدم الباحثون نوعًا من أشعة الرنين المغناطيسي، وهو التصوير المغناطيسي المرجح بالانتشار "diffusion-weighted MRI"؛ لفحص مسارات المادة البيضاء التي تصل بين مناطق الدماغ المختلفة. وقد نتج عن ذلك الفحص، أنَّ كلاًّ من المتحدثين باللغة العربية أو الألمانية كلغةٍ أم، كانت الاتصالية لديهم أعظم في شقِّ الدماغ الأيسر، الذي تُعالَج فيه اللغة بشكلٍ رئيس. أمَّا المُتحدِّثون بالألمانية، فقد كانت لديهم اتصالية أقوى بين مناطق المخ المُعالِجة للغة في كل من الشق الأيمن والأيسر، كل على حدة. وفي حالة الناطقين باللغة العربية، كانت الاتصالية أقوى بين مناطق الشق الأيمن والأيسر المُعالِجة للُّغة، وقد فُسِّر ذلك النشاط البالغ لشقّي الدماغ معًا بأنَّه نتيجة التعقيد الدلالي للغة العربية، بالإضافة إلى نمط الكتابة من اليمين إلى اليسار. كما بيَّنت النتائج أيضًا أنَّ الناطقين باللغة الألمانية كانت الاتصالات أقوى بين مناطق الدماغ المسؤولة عن المُعالَجة النحوية في الشق الأيسر من المخ. يتلخَّص مما سبق أنَّ اللغة المنطوقة، أو اللغة الأم التي اعتادها المرء منذ نعومة أظفاره، تُؤثِّر في بنية الدماغ بما لا يُمكِن تجاهل أثره؛ إذ تتغيَّر الاتصالات الدماغية، ما يُؤثِّر بالتأكيد على القدرات المعرفية والإدراكية، وكذلك طريقة التفكير؛ نيتجة هذا التغيُّر في الاتصالات الدماغية بحسب اللغة المنطوقة.
مشاركة :