الساحة الثقافية التونسية تهتز لسجن شاعر بسبب تدوينة

  • 8/11/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

محاكمة الشعراء والمبدعين عموما لأجل ما يكتبونه أمر مثير للريبة اليوم، أيا كانت الكلمة التي تُكتَب، مادامت ليست تحريضا على العنف والاقتتال، فجوابها ليس السجن. ألم يصرخ الشاعر العراقي مظفر نواب شاتما الحكومات العربية، ألا ترى الحكومات ما يكتبه فنانو الغرافيتي من نقد لاذع، وكثيرة هي الأمثلة. ورغم ذلك فقد ضجت تونس مؤخرا بمحاكمة شاعر بسبب تدوينة. حكم على الشاعر التونسي سامي الذيبي بالسجن ثلاثة أشهر بعد إيقافه منذ أيام، وذلك بسبب شكوى تقدمت بها وزارة الثقافة التونسية التي يعمل الشاعر صلبها، بعد تدوينة كتبها الشاعر على صفحته على فيسبوك، ينقد فيها وزيرة الثقافة. الحيثيات القانونية كثيرة في قضية الشاعر سامي الذيبي، وهي شأن القضاء، لكن شأننا كما هو شأن جزء كبير من عمل وزارة الثقافة هو الجانب الثقافي في الموضوع اللاثقافي هذا. محاكمة الشاعر لا فرق بين الناس وكلهم سواسية أمام القانون، لكن هل يتوفر هذا العدل “الطوباوي” في تونس، شأنها شأن الكثير من البلدان العربية؟ سجن شاعر بسبب رأي أو صرخة غاضبة ضد مسيّري وزارة الثقافة أمر يدعو للخجل. لم يكن رأي الذيبي أو صرخته شعرا، أي نعم، لتقارن بقصائد الهجاء التي أجاد فيها الشعراء العرب، لكن أليس للشعراء صرخاتهم الغاضبة. من قرأ هجاء المتنبي لضبة سيفهم أن للشاعر صرخاته التي قد لا تتماشى مع مسيرته الخلّاقة. تحجج البعض، ومنهم فريق الوزارة والوزيرة التي لم تسقط الدعوى عن الشاعر، بكلام الشاعر الذي اعتبر سوقيا، رغم أنني لا أرى فيه أيّ نابيّة بقدر ما هو استعارات تونسية، فاستعارة الحذاء أو “حارزة الحمّام” ألفاظ دارجة في اللهجة التونسية والحديث اليومي دون أن يكون فيها هذا التهويل من اعتبارها من أقذع الثلب. لا أبرر مثل هذه الجمل ولا أن يقارن أحدهم بين حذائه وأيّ شخص، لكن هل الوزيرة والشاعر شخصان تقاطعا في شارع؟ الوزيرة والشاعر العامل صلب وزارة الثقافة، تجمعهما علاقة شغليّة، لها صرامتها، وعلاقة مسيّر مَرفق يهتم بالإبداع من جهة والمبدع من جهة أخرى، وهذا المستوى الأهم في العلاقة. من منا لم يستشط غضبا على مديره، ولم يصرخ في وجهه حتى في سرّه بينه وبين نفسه. إذا كانت كل لحظة غضب تكافأ بالسجن، لما بقي أحد خارج أسواره. علاقة المبدع بالإدارة علاقة مشحونة دائما نادرا ما يتخللها الود لكن التقاضي في المحاكم لأجل الكلمة مرفوض التسيير لا يكون هكذا أبدا، والخطأ (إن صح أنه خطأ) لا يعالج بتلك الطريقة بتاتا، التي تحمل من الانفعال والتوتر والتشفي الكثير، إذ الحكم كان ثلاثة أشهر ما يخوّل للوزارة عزل الشاعر من وظيفته لاحقا. نعود إلى المستوى الثاني ألا وهو علاقة المبدع بالإدارة، وهي للأمانة علاقة مشحونة دائما، نادرا ما يتخللها الود، طبيعة المجالين مختلفة كليا، المبدع انفعالي عاطفي يحكمه الخيال والأفكار والتمرد، والإدارة محددة بقوانين يحكمها أحيانا الجمود، ولخلق علاقة بينهما لا بد من استنبات أرض وسطى بين هذا وذاك. على امتداد تاريخها احتضنت وزارة الثقافة التونسية وما تمثله من سلطة الدولة الكثير من المبدعين كتّابا وباحثين ورسامين وموسيقيين وشعراء ومسرحيين وسينمائيين، فكانت الجهة التي تدعم، وتنشّط الحراك الثقافي وتسيّره وتقوده وفق رؤى الدولة، ولكنها أيضا ساهمت في تهميش الكثير من المبدعين، الذين فشلوا في دخول منظومتها. ربما تكون وزارة الثقافة أكثر الوزارات تعرضا للنقد، نظرا إلى نوعية شريحة كبيرة من الأطراف التي تتعامل معها، ألا وهم المثقفون والمبدعون بدرجة أولى، وتُكال لكل وزير يأتي النعوت والصفات ويهاجَمُ بطرق كلامية شتى من مقالات أو حالات على فيسبوك أو صور ساخرة، وغيرها، لكن السؤال هل هوجم لشخصه؟ الجواب حتما لا، بل ينال النقد القاسي أحيانا لصفته مسيّرا للقطاع الثقافي، وما صرخة الشاعر الذيبي إلا في هذا الإطار، رفضا لطرق تسيير الوزيرة الحالية وإدارتها للشأن الثقافي والتي لا اختلاف على أنها تحتاج إلى مراجعة شاملة. عجز بلا مشروع يحتاج تسيير الشأن الثقافي في تونس إلى مراجعة كليّة، وهذا ما حاولت أن تنخرط فيه الوزارة مؤخرا، ولكن يبدو أنه في غياب رؤية وتماسك في جسم المؤسسة لن يحدث ذلك. انخرطت الوزارة في محاسبة عدد من منظوريها، وللصدفة فإن جلّهم شعراء وكتاب، واقتصرت المحاسبة المزعومة على أشخاص بعينهم نظير كتابتهم نقدا للوزارة والوزيرة على صفحات فيسبوك، غُلّفت هذه “المحاكمات” بحجج قانونية شتى، ولكن هل فعلا تنوي الوزارة فتح الملفات والتحقيق في شبهات الفساد والتحقق في الكثير من الأمور التي تحدث في الخفاء، أم أنها مجرد ردة فعل انفعالية تجاه أشخاص بعينهم؟ لماذا لا يحاسب الجميع بالقانون لا الناقدون فحسب؟ محاكمة الشاعر الذيبي، الذي كان في الصف الأول من النشاط النقابي صلب الوزارة، لا تتعدى الانفعال وردة الفعل التي يأتيها أيّ شخص، ولا ترقى إلى تصرف مؤسسة دولة تدّعي أنها تريد تصحيح المسار وإرساء الديمقراطية الحقيقية والعدل والمساواة وإصلاح القطاع الثقافي بما يتماشى مع رهانات البلد. وزارة الثقافة التونسية تتنكر لتاريخها الذي احتضنت خلاله الكثير من المبدعين وساهمت في حراك حضاري مؤثر نحن ضد الثلب، وقد حوكم سابقا بعضهم لأجل الثلب أو شبهة الثلب، لكن أغلبهم لا يتجاوز مرحلة الإيقاف، بينما حكم بالسجن وبهذه المدة على كلام لا يرقى إلى الثلب المدّعى هو أمر يدعو للتساؤل. لن نتدخل في عدالة القضاء. ثم الشكوى من الوزارة من أصله لأجل تدوينة إجراء مثير للريبة، هل هكذا تتصرف مؤسسة دولة تريد إصلاح نفسها؟ أبالانخراط في قضايا لا معنى لها وترك المهم والأهم من الخطوط العريضة التي يجب إصلاح الوضع الثقافي من خلالها؟ تشكو الساحة الثقافية من نقائص كثيرة ومن اضطراب ما انفك يتزايد،(مثل إلغاء الحفلات وملفات الدعم والميزانية والبنية التحتية والمنشطين الثقافيين.. إلخ) وهو ما يدعو إلى وقفة جديّة لتعديل الأوتار وتقويم المسار وفق ما يطرأ من تغيرات جذرية في تونس وفي العالم أيضا. لكننا إلى الآن لم نسمع من الوزارة بأيّ مشروع جدي في هذا الصدد، عدا وعود هنا وهناك وأغلبها بلا رؤية دقيقة وواضحة. القطاع الثقافي قطاع حيوي، وتسييره يتطلب مرونة ورؤية ودراية. قامت وزارة الثقافة على أكتاف مبدعين كثيرين مازالت إنجازاتهم راسخة إلى اليوم، مثل الشاذلي القليبي الحبيب بولعراس محمود المسعدي البشير بن سلامة وغيرهم، ممن أعطوا للثقافة التونسية الكثير وتركوا أسُسا سارت عليها الوزارة، وكانوا على تواصل مع المبدعين والمثقفين الذين هم منهم، فكانت ذروة الحراك الثقافي التونسي التي أشعت عربيا وعالميا. لاحقا صارت الوزارة دفة في يد إداريي السلطة التي أفرغتها من معناها في أواخر حكم الرئيس التونسي الراحل زين العابدبن بن علي، وتفاقم الأمر سوءا ما بعد ثورة يناير وهيمنة الإخوان على الدولة، فكانت الوزارة مجال صراع طاحن، جعلها في عجز وجمود. يتواصل عجز وزارة الثقافة التونسية اليوم عن خلق مشروع ثقافي ملموس يراعي الحاضر والمستقبل، ويراهن على ترسيخ الانفتاح والابتعاد بالثقافة من مجرد الترفيه إلى فعل حقيقي مؤثر في البناء الحضاري لتونس التي استنزف رصيدها الحضاري كما لم يحدث من قبل في السنوات التي تلت الثورة وإلى اليوم.

مشاركة :