"عندما تعيش أكثر من نصف حياتك مع الشعر وللشعر، وتعكف عكوف العاشق المتأمل ـ على مدى أربعة عقود من الزمان على الأقل! ـ على قراءته ودراسته ونقْل عددٍ كبير من نماذجه الشرقية والغربية إلى لغتك الأم؛ فلا بُد أن يتفق لك ما اتفق لي دون إرادة أو قصدٍ منك؛ إذ تفرض بعض القصائد نفسها عليك، تدعوك وتلحُّ عليك أن تسبغ عليها الثوب العربي وتنطقها بلسانٍ عربي وتصوغها صياغةً منظومةً وموقَّعة في وزنٍ أقرب ما يكون إلى الوزن والإيقاع الأصلي". هكذا افتتح المفكر والناقد الأدبي والمترجم د.عبدالغفار مكاوي كتابه "للحب والحرية: أزهار من بستان الشعر الغربي قديمًا وحديثًا" الصادر عن مؤسسة هنداوي والذي يضم بين دفتيه مجموعة كبيرة من القصائد والمقطوعات المنظومة لأكثر من أربعين شاعرًا وشاعرة طبعوا مسيرة الشعر الغربي، وأثَّروا على بعض تحولاته المهمة منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وذلك من العصر اليوناني القديم وبداية الشعر الغنائي، مرورا بالعصر الوسيط وعصر النهضة وشعر الحكمة التعليمي في القرن السابع عشر إلى شعر التجربة الباطنة في القرن الثامن عشر، وبعض رُوَّاد الحداثة الشعرية في أواخر القرن التاسع عشر، حتى بعض أعلام الشعر العاطفي والتأمُّلي والسياسي في القرن العشرين ممن لا يزال بعضهم أحياء يُرزقون ويُبدعون. وحول الأساسٍ الذي قام عليه الاختيار لهذه القصائد، والمنهج الذي اتبعه أو المعيار الذي اعتمد عليه، يقول مكاوي في مقدمته "كل اختيارٍ يقوم بالضرورة على رأيٍ أو موقفٍ معين، ويقصر نفسه ـ أمام بحر المادة الذي يبدو بلا شاطئ ـ على عصرٍ أو عصورٍ بعينها، واتجاهات ومدارس بذاتها. والمختارات الشعرية في كل اللغات والآداب، وعلى تعاقُب العصور والتيارات، تظل على الدوام محدودةً بحدودٍ مختلفة، وتبقى في النهاية جزءًا من كلٍّ أوسع وأشمل. وربما يكتسب المختار قيمته وأهميته، ويستمد حيويته وتميزه عن غيره وبقاءه عبر العصور من كون هذا الجزء المنتقَى أو المقتطَف شبيهًا "بالجرم الصغير" الذي وصفه شاعرنا القديم بأن فيه "انطوى العالم الأكبر"...؛ أعني أن يكون الجزء الذي وقع عليه الاختيار أشبه بباقة الزهور المعبرة عن بستانٍ كامل، أو بمجموعةٍ من اللآلئ ـ أو حتى الأصداف وقِطع المحار! ـ التي تعكس مدى عمق البحر وجلال أسراره وتنوُّع أمواجه ورياحه وتياراته المصطخبة الجيَّاشة بالكنوز والنفائس وبالنفايات أيضًا.. ويضيف "إنني لم أختر هذه النماذج، وإنما هي التي اختارتني وفرضَت نفسها عليَّ، لا جِدال في أن ثقافتي وتكويني العقلي والوجداني واللغات التي أستطيع القراءة بها واللحظات التي التقيتُ فيها بهذه القصائد ـ أو بالأحرى تحاورتُ معها فتخلقَت فجأةً، أو بعد تجربة اختمارٍ طويلة، ثم تفتقَت عن هذه النماذج المتفاوتة في قيمتها ودرجة التوفيق أو عدم التوفيق في "إعادة إنتاجها" (ولا أقول في إعادة إبداعها؛ لأن هذه الكلمة أكبر بكثير من محاولاتي المتواضعة!) أقول: لا جدال في أن هذه العوامل كلها ـ مع عوامل أخرى ظاهرة أو خفية يصعب حصْرها أو التصريح بها ـ قد تدخلَت بطبيعة الحال في اختيار كل قصيدة وكل شاعرٍ اقتربتُ منهما أو اقتربا مني، والمهم بعد كل شيء أن هذه المختارات هي التي اختارتني، وأن حدود ثقافتي وقدراتي و"شروط" وجودي وحظوظي من الحياة قد عملَت عملها في إنجاز عملية الاختيار المتبادل ورسم حدودها الضرورية وتسيير جدليتها الواعية وغير الواعية". ويوضح مكاوي "حاولتُ هذا مع قصائد لشعراء أحببتُهم وعشتُ معهم وترجمتُ عنهم من قبلُ، مثل: إلوار ولوركا وجوتفريد بِن وإنجبورج باخمان وباول سيلان (ولكلٍّ منهم قصيدةٌ واحدة في هذه المجموعة)… وغيرهم، والأغرب من ذلك أنني حاولتُ قبل سنواتٍ طويلة أن أنظم بعض القصائد أو مجرَّد أبياتٍ أو مقطوعات من قصائد تُعَدُّ في تاريخ الأدب والشعر علاماتٍ بارزةً على تحولات "الشعرية" الغربية، ونُقط تحولٍ فارقة في مسيرة الشعر الغربي بأسْره، وأقصد بذلك ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قصائد معروفة ومشهورة بصعوبتها وأهميتها مثل: السفينة السكرى لرامبو، والمقبرة البحرية لفاليري، والأرض اليباب لإليوت، ومرثيات دوينو لريلكه، وبعض القصائد والأغنيات القصصية ـ البالادات ـ التي سحرت لُبِّي، وما زالت تسحرني وتجذبني لترنيمها من حينٍ إلى حين، وذلك من فرانسوا فيون إلى جوته وشيلر وبريشت وغيرهم، لكنني تراجعتُ عن تلك المحاولات الطائشة على الفور، ولم أعُد إليها أبدًا، لا لأنني لم أنظم أبدًا إلا تلك القصائد التي نظمَتني ـ إذا جاز هذا التعبير ـ ولا لأن نظْم إحدى تلك الروائع العسيرة أمرٌ لا يصح أن يقدم عليه إلا شاعرٌ كبير في لغته فحسب، بل لأن المحاولة نفسها ستجني لا محالة على النص الأصلي، وستلجأ حتمًا إلى تحريفه أو الإضافة إليه والحذف منه، أو على أقل تقديرٍ إلى إبداعه إبداعًا جديدًا ـ ربما يكون بعيدًا عن الأصل بُعْدَ ترجمة فيتزجيرالد الإنكليزية لرباعيات الخيام عن الأصل الفارسي وربما أكثر وأسوأ! ـ والأوفق في كل الأحوال هو نقْل هذه الروائع في أسلوبٍ نثري وغنائي أمين ودقيق وحسَّاسٍ بقدر الإمكان كما فعلتُ مع الأمثلة السابقة ومئاتٍ غيرها في كتبي المتواضعة التي سبَق أن قدمتُها عن الشعر الغربي، ومن أهمها: "ثورة الشعر الحديث" بجزأَيه، وعزائي الوحيد عن عدم ورُود نماذج لأولئك الشعراء الذين أخلصتُ لهم الحب هو أنني قدمتُ لهم في كتبي السابقة ترجماتٍ نثريةً عديدة ربما يفوح منها عبقُهم الخاص. من المختارات يوهان فولفجانج جوته (1749ـ 1832م) ـ أغنية الجوَّال مساءً يا أيها الحبيب … يا من تجيء (زائرًا) من السماء العالية، تسكِّن العذاب كله والحزن والهموم، وتغمر التعيس مرَّتَين، بنشوة السعادة المضاعَفة، أواه! قد تعبتُ من مشقَّة التجوال والترحال، ما غاية العذاب، ما معنى السرور والألم؟ يا أيها السلام، تعالَ أيها السلام العذب، وادخل صدريَ المسكون (بالشجون والندم). أرتير رامبو (1854ـ1891م) ـ أغنيةٌ أعلى الأبراج شبابي الخامل، كم أنت مستعبَد، برقَّة الحسِّ، ضيَّعتُ أيامي (وعمري الزائل) (عهد الصبا بادا) يا ليته عادا، ليُشعل القلبا! ••• قد قلتُ يا نفس ازهدي، لا تتركي أحدًا يراك، لا تضرعي، لا تحلمي بسعادةٍ عُليا هناك. ••• زمن التخفِّي والرجوع لا يوقفَنْ أحدٌ خطاك! ••• كم تصبَّرتُ طويلًا بعد نسيان فؤادي كيف يصبر، كل خوفي وشقائي صعدا نحو السماء. ••• عطشي وهو السقام راح يسري كالظلام في عروقي ودمي. ••• هكذا ينمو ويزهر، بعدما ينسى ويهجر، ها هنا مرجٌ معطَّر، ببخور أو سموم، حولها يهفو ويهدر من ذباب بالمئات كل وحشيٍّ قذر. ••• يا ألف همٍّ وهم، يعرو النفوس الشقية، لم يبقَ فيهن إلا خيال رسمٍ قديم، لأُمِّنا العذرية! فهل هناك قلوب تدعو لها وتصلي من هذه البشرية؟ ••• شبابي العاطل كم أنت مستعبَد، ضيَّعتُ أيامي (وعمري الزائل) (عهد الصبا بادا) يا ليته عادا، ليُحرِق القلبا! فريدريش نيتشه (1844ـ 1900م) ـ هو ذا إنسان حقًّا إني أعرف أصْلي! نهِمٌ لا أشبع، أتوهَّج، آكُل نفسي كاللهب المحرِق، نورًا يصبح ما أمسكه، فحمًا ما أتركه، حقًّا! إني لهبٌ محرِق! فيدريكو غرسيه لوركا (1898ـ 1936م) ـ الصمت أنصِت، يا ولدي، للصمت، صمت متموِّج، صمتٌ تنزلق الوديان خلاله، والأصداء، ويشدُّ جباهًا نحو الأرض. ـ وداع إن متُّ خلُّوا شرفتي مفتوحة، الولد الصغير يأكل برتقالة (من شرفتي أراه) والزارع (الفقير) يحصد قمحه (من شرفتي أراه) إن متُّ خلُّوا شرفتي مفتوحة! خوان رامون خيمينيث (1881ـ 1958م) ـ الحديقة الليل وحيد لا متناه، نسيانك، أسفل رائحة، عبق الياسمين، رائحة غيابك. الأنجم تبدو عالية، شهقاتك وردٌ وزهور مغلقة السرِّ على روحي … أتمشى ما بين ظلال … لا أحد يراني ما دامت عينك لا تقع عليّْ، وسمائي منذ رحلتَ وغبتَ بعيدة، تخفق، ترتعش بنبض لم تحمله إليّْ، تلمع، تطفح بفراغٍ أخرس نهب للوجد، وجْد عذابي غير المحدود.
مشاركة :