لفت نظري خلال الأيام السابقة خبرٌ عن الاستقالة التي تقدَّم بها جيفري هينتون، الذي يُعرف بأنه الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، من شركة جوجل، وأرفقها بتحذير مما أسماه "الأخطار المتزايدة" من عمليات تطوير هذه الأدوات، مشيرًا إلى أن الأبحاث التي تجرى على نطاق واسع لتوسيع نطاق عمل الروبوتات؛ لتشمل إنتاج جيوش إلكترونية، تقاتل بالنيابة عن البشر، أصابته بالخوف الشديد، مؤكدًا "ندمه" على عمله. طافت في ذهني أسئلة متعددة، حاولت أن أجد إجابات لها، دون فائدة.. فهل يعني هذا الاعتراف المفاجئ أننا سنشهد حقًّا وجود مقاتلين آليين، قد يتسببون في فناء البشرية، وإنهاء الحياة على ظهر الأرض؟ وهل صحيح ما يردده البعض عن احتمال فقدان البشر السيطرة على هذه الأدوات التي صنعوها بأيديهم؟ قبل أن أفيق من حالة الذهول التي سيطرت عليَّ صُعقت أيضًا بأن المهندس الأمريكي مارتن كوبر، الذي اخترع الهاتف النقال، أعرب عن ندمه هو الآخر من هذا الاختراع الذي لا يكاد يفارق أيدينا حتى نسارع للاستمرار في استخدامه. والسبب في الندم هذه المرة هو أن كوبر يشعر بالصدمة عندما يرى شخصًا يعبر الشارع، وينظر إلى هاتفه الخلوي، مشيرًا إلى أن الناس "فقدت عقولها"، وأنهم سوف يفهمون الأمر "بعد أن تدهس السيارات بعضهم". ربما يرى البعض أن هؤلاء المخترعين العظماء لم يخطئوا عندما قدموا هذه الاختراعات التي أسهمت في تغيير حياتنا إلى الأفضل، لكننا نحن الذين نسيء استخدام التكنولوجيا، ونحوّلها إلى إضافة سالبة في حياتنا. وهذا صحيح، ولا شك فيه، لكن ماذا عن الندم الذي أبداه ميخائيل كلاشنكوف مخترع بندقية كلاشنكوف الرهيبة التي حصدت أرواح مئات الملايين حول العالم؟ فعلى الرغم من أنه خلد اسمه في التاريخ بذلك السلاح الذي حمل اسمه، وترقى بسببه من رتبة رقيب إلى عقيد في الجيش الروسي، إلا أنه اعترف قبل ثلاث سنوات من وفاته عام 2013 بأنه يشعر "بوجع لا يحتمل" من جراء العدد الهائل من الأرواح التي فُقدت بسبب اختراعه الرهيب. أما ألفريد نوبل الذي اخترع الديناميت، وتسبب بدوره في بتر أطراف مئات الملايين نتيجة للمتفجرات التي ملأت الدنيا، وصارت تُستخدم على نطاق واسع في الحروب، فقد كانت آلامه هائلة، وحاول التكفير عنها بإنشاء أرفع جائزة على مستوى العالم، من أبرز فروعها جائزة نوبل للسلام. وعندما تتبَّعت أخبار الذين قدَّموا اختراعات مذهلة، وندموا عليها فيما بعد، وجدت القائمة طويلة؛ إذ ينضم إلى هؤلاء ألبرت آينشتاين الذي كانت أبحاثه سببًا رئيسيًّا في اختراع القنبلة الذرية، وروبرت أوبنهايمر الذي يُعرف باسم "والد القنبلة النووية"، الذي قال في آخر حوار تلفزيوني معه "الآن أنا أصبحت الموت، ومدمر العالم". ما أردت قوله هو أن القوة الدافعة لهؤلاء كانت هي الغرور العلمي، والرغبة في تحقيق مجد شخصي، يخلّد أسماءهم، وهم في غمرة انشغالهم بتحقيق أهدافهم لم يفكروا في عواقب اختراعاتهم، وربما كانت المصالح المادية أو غيرها سببًا إضافيًّا لذلك، وهذا ليس هو المهم في هذه المساحة. السؤال هو: هل هذه الدوافع كافية لأي منا كي يفعل ما يريد، سواء كان بحسن نية أو خلافه؟ ومن سيدفع ثمن أخطاء هؤلاء، إن جاز التعبير؟ وهل المبررات التي قدموها كافية كي نسامحهم على ما اقترفوه في حق البشرية؟ شخصيًّا أرى أنها اعتذارات متأخرة، لا تسمن ولا تغني من جوع.. فالأبحاث العلمية مهما كانت أهميتها وضرورتها ومسوغاتها ينبغي أن تكون محكومة بضوابط أخلاقية، تنظمها، وتوجهها نحو خير البشرية، وليس نحو فنائها؛ لذلك أقول لهؤلاء "عفوًا، أعذاركم غير مقبولة".
مشاركة :