'داجني' وليمة حب ألهمت رسامي وفناني وشعراء عصرها

  • 8/17/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"داجني أو وليمة حب سماوية" رواية الكاتب والناشط الثقافي الجورجي سوراب كاروميدتسي، هي رواية مكتوبة باللغة الإنكليزية، تم إدراجها في عام 2013 في القائمة الطويلة لجائزة دبلن الدولية للأدب، وفي عام 2014 تم نشرها في الولايات المتحدة. بنيت أحداثها على جريمة حقيقية وقعت في بداية القرن العشرين، فقدت على إثرها سيدة نرويجية غامضة حياتها؛ لكنها ليست رواية بوليسية، بل عمل استثنائي يحكي عن الحب والأسى والفن والثقافة وما وراء منظورنا الأرضي لهم. تستلهم الرواية حكايتها من الأساطير التي تقف على أبواب الحقيقة، ومن الشعر القديم قدم المسيح، ومن من رموز الحياة في الموت والموت في الحياة. "داجني يول" المرأة النرويجية التي أحبت كثيراً، ملهمة رسامي وفناني وشعراء عصرها. كتبت بعض الشعر وتركت عددا من المسرحيات الشعرية.. تلقت طلقة واحدة قاتلة عام 1901، أطلقها معجب موتور ثم قتل نفسه تماماًكما تنبأت لوحة الصرخة، حيث يقال إن مونك تأثر بهذه المرأة حين رسم لوحته الأشهر. تدور أحداث الرواية،التي ترجمتها أمل الشربيني وصدرت عن دار صفصافة،في جورجيا، حيث يتجمع العشاق والفنانون والسحرة والشعراء والفهود والأسود وأشباههم وعلماء الفلك،  بل وكائنات من كواكب أخرى من أجل وليمة الحب السماوية التي انتهت بالحادث الأليم وموت المرأة تلك التي أحبت كثيراً.. وكما يوحي العنوان هناك قصتان متناقضان تتكشفان في الرواية: واحدة عن الشاعرة والكاتبة المسرحية النرويجية"داجني يول"1867ـ1901، وهي امرأة جميلة ومبدعة، تقودها حياتها الضالة إلى جورجيا. كان "داجني يول" مصدر إلهام لمشاهيرالفنانين بميلاد الحداثة الأوروبية مثل أوغست شتريندبرغالذي كرهها في الواقع وصورها بإحدى مسرحياته في شخصية "امرأة الهلاك"، والرسام إدفارد مونك، وجوستاف فيجيلاند النحات الإيروتيكي، والشاعر ستانيسلافا ريبيشيفيزكي، وكانت "ملكة" بوهيميا برلين في تسعينيات القرن التاسع عشر. القصة الأخرى عبارة عن مزيج وهمي من التصوف الديني والإثارة الجنسية والأصول الأسطورية للفنون والسياسة.. إنها مسرحية بمواضيع ثقافية مختلفة، تتخطى التطرف مثل الفن الشاماني وفن باخ في الفوج، الغنوصية وجماليات الحداثة، السحر واللغويات. يتم تقديم هذا المزيج من الموضوعات والأفكار في قصة ما يسمى Agape"عيد الحب" وهو حدث نصف ديني نصف فني. "توبوس" - المكان الذي يتقاطع فيه "عيد الحب" مع الواقع هو مدينة الولائم اللامحدودة والمناقشات الجنونية - تيفليس. بعض شخصيات الرواية تاريخية - جوزيف ستالين، صديقه الإرهابي كامو، صاحب الرؤية والمعلم جورج جورييف، الجورجي في شكل فازا بشافيلا، الفنان الجورجي البدائي نيكو بيروسماني، أوغست ستريندبرغ، وغيرهم. في حالات أخرى، يتم تقديم شخصيات مركبة مثل جورناهور، وهو مخلوق يشبه الغراب من نبات زحل، وكذلك العديد من المفاهيم، والعديد منها مقتبس من كتابات Gurjieff الذاتية والسيرة الذاتية. يقول كاروميدتسي في مطلع روايته "لا أنكر أن محاولتي كتابة رواية باللغة الإنكليزية كانت مخاطرة بجميع المقاييس! فلست متمكنا من اللغة بالدرجة التي تتناسب مع إمكانية تأليف نص أدبي، لأنها ليست لغتي الأم. كذلك لم أكن واثقا أو على يقين كامل من كامل من مبرراتي من أسباب الكتابة عن امرأة غامضة آتية من إسكندنافيا إلى جنوب القوقاز لتتلقى رصاصة من أحد معجبيها، في قريتي ومسقط رأسي قبل مئة عام أو يزيد، فترديها قتيلة. أضف إلى كل ذلك أنني رجل سيئ، لا يعرف معنى الحب، فكيف أكتب قصة عن الحب؟ كما أني مريض. فلا شك أنني أعاني من مشكلة ما في كبدي بسبب شراهتي التي لا أعرف لها سببا للخمر. إذا كيف أنجز مهمة خطيرة كهذه؟ أحيانا أفكر في إيجاد علاقة بين إدماني للخمر وعدم درايتي وجهلي بمعنى الحب، فأسأل نفسي ذلك السؤال الذي لا أجد له إجابة: "هل أسكر لأنني لا أعرف معنى الحب، أو لا أعرف معنى الحب لأنني سكران؟". يذكر أن سوراب كاروميدتسي كاتب وناشط ثقافي جورجي ولد عام 1957 في تبليسي. درس الأدب الإنكليزي ثم عمل باحثا في مركز أبحاث الجامعة. صدر له العديد من المجموعات القصصية والروايات وترجمت أعماله في أوروبا والولايات المتحدة. مقتطف من الرواية في الثامن عشر من مايو، وصلت داجني إلى تيفليس بصحبة ولدها، وعمره خمس سنوات، ومعهما القاتل المنتحر –باعتبار ما سيكون- فلادسلاف إيمريك. بالإضافة إلى رجلين آخرين، كانا بصحبتها افتراضيًّا ولم يفارقا ذهنها، وهما؛ ستاك ريبيشفيزكي، زوجها الذي انفصلت عنه قبل عام من رحلتها إلى تيفليس، وفينسينت برزوزوفيسكي، شاعر شاب من أصول فرنسية بولندية أقامت معه علاقة حميمة بعد انفصالها عن ستاك. وأقاما حينها معًا بفندق في مدينة كراكوف ببولندا. لكن، بعد عدة شهور من تركها له، انتحر فينسينت بالسم، وسمعت داجني خبر انتحاره فكان رد فعلها بسيطًا وتلقائيًّا ولم تزد قولًا على جملة وحيدة: "نعم، لقد فعلها". قالتها، وكأن هناك سرًّا عن الموت يبرر الانتحار تعرفه وحدها، ثم أسرت به إلى فينسينت، فصارا هما الوحيدين اللذين يعرفانه. لكن المفارقة العجيبة هنا هي أن فينسينت قبل أن "يفعلها" وينتحر كان قد ترك لإيمريك مسدسه ليقتل به داجني، ثم ينتحر في فندق جراند أوتيل بتيفليس. "نعم، لقد فعلها!" وأرسل لداجني قبلة حارة من قبره لتعرف أن الحب لا يقل قوة عن الموت. إذًا، من هو فلادسلاف إيمريك؟ بولندي من أصل روسي، حساس، مثالي، غير مستقر عاطفيًّا، لا يصلح لأي شيء -إذا أردنا وصفه بالتحديد- وابن لرجل أعمال ثري من وارسو، وبفضل أبيه استطاع أن يفتح منجم ملح في جورجيا، ثم أخفق في العمل حتى صار مفلسًا، وظل على هذه الحال حين اصطحب داجني إلى تيفليس. ووقع إيمريك في عشق ستاك، وكذلك أعجبته داجني، التي سماها البولنديون "دوتشا " في تلك الفترة. اشتهر ستاك في بولندا بكونه سكيرًا بوهيميًّا، وكاتبًا موهوبًا، ومفكرًا جمهوريًّا في حركة الأفونجارد "الاتجاه التقدمي" المرتبطة باتجاه دولة بولندا الجديدة، بعد موجة ثورية قومية تشبه تلك التي ظهرت في مناطق أخرى بمنتصف وشرق أوروبا بالمستعمرات الروسية. عبر إيمريك من وقت لآخر عن إعجابه بملك وملكة البوهيميين في وارسو –ستاك وداجني- بالقدر الذي بلغ حد الدعم المالي لهما. ولا أستطيع الجزم بأن هذا الدعم خيري، فعلى ما يبدو ليست هذه المنح إلا هبات من متملق ذليل للتعبير عن ولائه. ولا أرجح أن تكون داجني قد رافقته إلى تيفليس لأنه حبيبها، فتلك رواية عارية تمامًا من الصحة. واحتمالية أن تكون بينهما علاقة حميمية في حد ذاتها مستحيلة. فكما أن التعصب الديني ليس سببًا كافيًا لدخول الجنة، كذلك مشاعر الإعجاب، مهما شابته العاطفة المحمومة تجاه امرأة بعينها، ليست محفزًا قويًّا لها بما يكفي لتقبل الدخول في علاقة جنسية مع هذا المعجب. وكما يقال: "العديد مدعوون، والقليل هم المختارون!" بمعنى أدق، يمكن وصف إيمريك بأنه القس المخصي في جنة داجني المقدسة، وديانته التي اعتنقها هي الجنون. قبل مقتل داجني وانتحاره، ترك إيمريك عددًا من الرسائل لبعض الأشخاص، وهم ستاك وزينون وصديقه الذي يعيش في تيفليس، وأنطون كيلر الذي اهتم بترتيبات جنازة داجني. وقال في رسالة لزينون الذي لم يتعد من العمر حينها عامه الخامس ما يلي "نصًّا": "هي لا تنتمي إلى هذا العالم، فهي ملائكية بدرجة جعلت طبيعتها الحقيقية سرًّا غامضًا لم يستطع أحد حله. كانت تجسيدًا للمطلق، وكانت... يا إلهي! ستسمع عنها من الآخرين. فقط أردت أن أقول لك إنها قديسة، وإنها الخير نفسه، ذلك الذي يجلس على عرشه ويتنزه عن كل دنيء". أما إلى ستاك، فكتب: "يجب أن أؤجل كل شيء حتى تأتي اللحظة التي يتضاءل فيها إحساسها بما أنا مقدم عليه. سأقتلها عندئذٍ. هي تعرف أنني عازمٌ على قتلها، وتدرك أنه الخلاص الوحيد، وأنه أمر حتمي. ستاك! سأقتلها لمصلحتها". من محتوى تلك الرسائل يبدو أن إيمريك متأثر بدرجة كبيرة برواية "العبيط" لدستويفسكي، وخاصة بشخصية المرأة الرائعة التي قُتلت "لمصلحتها" كذلك، كما جاء في الرواية. ولا يمكن إنكار أن الإبداع في ذلك العصر كان له تأثير كبير على العقول الهشة، ويفوق بكثير أثره عليهم في الوقت الحاضر. ومن الممكن أيضًا أن جنون الارتياب الذي يعاني منه هو ما أوحى له بهذه الفكرة وجعلها دافعًا لتفريغ مشاعره المكبوتة في اللاوعي وتحرير نفسه المعزولة، فرأى أن قتل واحدة من الآلهة بأسلوب همجي بدائي، والتمثيل بأعضائها هو أفضل قربان يقدم في طقوس نشأة الكون! لكن، ماذا لو أن داجني نفسها ألهمته بهذا الجنون؟ الأكيد أن إيمريك لم يكن ليجرؤ تحت أي ظرف بمصارحتها بنواياه. إذًا كيف يقول إنها أحست بنيته قتلها؟ وإنها رأت في موتها الوسيلة الوحيدة للخلاص، وإن وقوعه حتمي؟ لا بد أن النساء اللاتي لا يسعهن العالم يتعاملن مع الحياة بقدر من المبالغة، وأن لديهن علاقة من نوع خاص مع الموت. أو ربما الموت نفسه يعاملهن معاملة العشيقات. لا يمكنني التحدث بلسان "الموت نفسه"، لذا سأتحدث لاحقًا بلسان الرجال المتميزين الذين انجذبوا عاطفيًّا إلى نساء يشبهن داجني يول. حين بلغ القطار أرصفة محطة تيفليس وبدأ في السير بطيئًا، بدا كأنه لسان من نار يخرج من فوهة بركان، حتى هدأ دخان محركه تمامًا بمجرد أن سكن في مكانه وتوقف عن الحركة. إيمريك هو أول من ترجل ملوحًا بيده لأنطون كيلر الذي مد الخطى نحو عربتهم وبصحبته حمَّال كردي من أهل المدينة، له شارب كثيف. قفز زينون متخطيًا درَج القطار ومن خلفه داجني تلاحقه محاولة أن تمسك بقميصه من الأكمام، وتصيح: "انتبه لخطواتك يا بني!". قدّم إيمريك صديقه لداجني وهي تحاول تخليص ذيل ردائها مما علق به أثناء نزولها على درج القطار.

مشاركة :