في فبراير الماضي، كانت هناك مجموعة من العرب في «ميني باص» أبيض يقطع شوارع طوكيو، تناقش الربيع العربي. كان يفترض برحلة مثل هذه، نظمتها السفارات اليابانية في بلداننا، أن تتمحور حول اكتشاف اليابان، لكنها كانت - في أكثرها - عن اكتشاف العربي لنفسه. ولأسباب لا حاجة لذكرها، تحدثنا عن السياسة الخارجية الأمريكية، التي دمغت السياسة الخارجية اليابانية، والتي أعطبت بلداننا. كنا ستة في تلك الرحلة، من مصر واليمن والجزائر والسعودية والكويت، وسادسنا كان تونسيًا ومغربيًا في الوقت ذاته، الأمر الذي خلق منظورات متعددة لما حدث في 2011. وتساءلنا جميعًا كيف ترانا نفهم «الربيع» بعد أكثر من عقد، وإذا أردنا تقييم التجربة، هل نتحسر على ما لم يحدث، أم نندم على ما حدث؟ ولماذا يعجز أكثرنا عن تقديم مراجعة نقدية متبصرة، غير موصومة بانفعالات تنقسم بين التخوين والبطولة، أو العمالة الخارجية والشوفينية العمياء؟ وسألت رفاق الرحلة، لو كان هناك زر سحري، قادر على محو ما حدث في تلك السنة، هل كنت لتضغط هذا الزر؟ انقسمت الإجابات، بطبيعة الحال، بين نعم ولا، رغم أن المعسكرين اتفقا على أن الأمور باتت أسوأ مما كانت عليه. قال أحدنا بأن 2011 هي السنة التي جعلتني أنا، وقال آخر بأن الناس كانت تتذمر من أكل الدجاج كل يوم، لكنها الآن عاجزة عن شراء البيض، وقال ثالث بأننا لا نستطيع تقييم تجربة الربيع لأنها لم تنته، وقال رابع بأنه سيبحث دائمًا عن طريق ثالثة إذا كانت الخيارات الوحيدة المتاحة هي الدكتاتورية والغوغاء. كان الرابع مثاليًا. طوال أسبوع قضيناه في طوكيو، استمر الحوار، في شكل ثنائي أحيانًا، في قطار الطلقة أو متحف هيروشيما، وحتى أمام أحد معابد كيوتو. وأعتقد أن لكل منا قراءة ناقصة لما حدث، وأن السؤال ما زال مشرعًا في وجوهنا: كيف نفهم الربيع العربي؟ آصف بيات بين السبعينيات والربيع مظاهرات الثورة الإسلامية في إيران - الصورة: Getty قرأت كتاب « ثورة بلا ثوار » لآصف بيات قبل رحلتي إلى اليابان، وما زلت أتحدث عنه في كل فرصة سانحة وأطلب من الأصدقاء قراءته، لأنني أؤمن بأن القراءة التي لا يواكبها حوار مواز، هي قراءة ناقصة. يقارن آصف بيات (باحث إيراني أمريكي يعمل أستاذًا لعلم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إلينوي) بين ثورات السبعينيات (إيران 79، نيكاراغوا 1979، الانتفاضة الاشتراكية في اليمن ما حدث في عمان 65-75) من جهة، وثورات 2011 من جهة أخرى، ويستنبط افتقار «الربيع» إلى الراديكالية، أو النزعة الجذرية، بسبب غياب الترسانة الأيديولوجية، الأمر إلى أدى إلى ميوعة في الموقف وضعف في المفاهيم الفكرية التي يفترض أن ترافق كل حلم بالتغيير. يقول بيات بأن «الثورات العربية افتقرت إلى مرساة فكرية مشتركة»، وأتذكر نفسي في 2011، لا أكلُّ عن طرح الأسئلة على الأصدقاء والصديقات الذين ملأتهم الثورات بأمل مُسكِر وغير مسبوق، في محاولة فهم لطبيعة هذه الأرضية المبدئية التي نقف عليها جميعًا. إحدى صديقاتي كانت تردد بزهو أننا «جيل ما بعد الأيديولوجيا، انقسامات الأجيال السابقة ليست إرثي ولا مشكلتي»، وكانت تلك طريقة رشيقة وبهلوانية للتنصل من مسؤولية خلق حراك لا يقوم على أفكار واضحة. في كتابه « هل يستطيع غير الأوروبي التفكير »، كان حميد دباشي يكرس الكثير من مقالاته التي كتبها مواكبًا ثورات تونس ومصر في 2011 في مديح «جيل ما بعد الأيديولوجيا»، الجيل الذي «تجاوزنا جميعًا». ففي تلك السنة الخطرة، كان التنصل من الأفكار الإشكالية التي ينقسم الناس حولها، مثل الحريات والدولة المدنية (أو الدينية) والرأسمالية أو الاشتراكية، هي الطريقة الوحيدة لحشد تلك المليونيات التي جمعت «الشامي على المغربي». وفي حين كانت ثورات القرن العشرين تتخذ موقفًا واضحًا إزاء الإمبريالية، ومناهضة الرأسمالية، والعدالة الاجتماعية، كان الربيع يطالب بعموميات حقوق الإنسان، والمحاسبة السياسية، والإصلاح القانوني. إنها ثورات لم يخطر لثوارها ولا للحظة أن يطالبوا بنظام بديل بنيويًا. ورغم أنهم طالبوا بإسقاط النظام، لم يكن البديل حاضرًا حتى على مستوى المخيلة. لقد «عجزوا عن تصور أشكال تنظيم وحكم تختلف عن الأشكال التي تمردوا ضدها»، و«لم يكن ثمة قطع بات مع النظام القديم». كانت طفولة ثورية تريد أن تتنشق هواء الحرية في الميادين، دون أن تغادر تلك الحالة الفارقة، والمسكرة حقيقة، لتواجه «نكد العيش» في الواقع، والمشكلة، بتعبير مات فورد، أن المرء «لا يمكنه أن يعيش في المهد إلى الأبد». ثورات الزمن الأمريكي رجل مصري يبيع الخضار أثناء المظاهرات ضد محمد مرسي في ميدان التحرير - الصورة: Getty في فبراير 2023، بعد الزلزال المؤلم الذي ضرب تركيا وسوريا، وإبان الانقسام الأكثر إيلامًا إزاء إغاثة السوريين في الداخل (هل تصل؟ هل تُسرق؟ هل الحصار يؤذي الإنسان العادي؟ هل الحصار في صف الثورة؟ وأي ثورة؟ وما البديل؟ إلخ.. إلخ)، نشرت الحركة التقدمية الكويتية بيانًا يطالب بكسر الحصار على سوريا من أجل إيصال أموال الإغاثة، وسخر البعض مما ورد في البيان، تحديدًا بسبب ذكره لكلمة: إمبريالية. جزء مني كان يتفهم هذا الموقف، لأنني أعرف كيف وُظفت «الإمبريالية والصهيونية» لتبرير غزو الكويت سنة التسعين. لكنني أيضًا قرأت لطارق علي، وإدوارد سعيد، وخلدون النقيب، وفرانز فانون، وتشينوا أتشيبي، وجوزيف كونراد، ورضوى عاشور، وغيرهم، وأعرف بأن الإمبريالية ليست الفزاعة التي تستخدمها الحكومات لإخضاع مواطنيها، حتى لو كانت كذلك. وكان الخاطر الذي تبادر إلى ذهني، وأنا أرى السخرية الثورية من كلمة إمبريالية، هو أننا نعيش فعلًا في «الزمن الأمريكي»، وهو زمن أصبحت فيه كلمات من قبيل «إمبريالية» و«استعمار» وحتى «أيديولوجيا» مخلفات حرب باردة وضعت أوزارها منذ عقود. أصبح التنصل الرشيق من الأيديولوجيا، على طريقة دباشي، هو فضيلة الثوريين الجدد الذين لا يريدون إغضاب أحد. وأصبحت كلمة أيديولوجيا في ذاتها شتيمة، باعتبارها مؤشرًا على التخشب والعيش خارج التاريخ (وهذه فكرة أمريكية جدًا). الأخطر أننا باستخدام لفظة أيديولوجيا، لا نقصد الرأسمالية أو الليبرالية، ولا المركزية الغربية أو حق الإنسان في السيطرة على الطبيعة، لا نقصد الفردانية أو المادية الواقعية، بل نقصد الأفكار الأخرى، الأفكار التي هُزمت في المعركة، والأفكار التي لم تُختبر بعد. يقول بيات: «بعد الحرب الباردة، انحسرت فكرة الثورة من المناخ الاجتماعي، وبعد تلاشي القومية والماركسية اللينينية وعقيدة الجهاد، حل النموذج النيوليبرالي وإطاره المعياري، وتغيرت اللغة الثورية لتصبح باختصار المطالبة بالحرية الفردية والمجتمع المدني والسوق الحرة والإصلاح القانوني، ومحاربة الفساد». وفي الوقت الذي صارت فيه الحركات «أكثر سيولة وانفتاحًا وأفقية، قصرُ عمرها، وأصبح خصومها - أي الأنظمة - أكثر تنظيمًا وتكتمًا وذكاءً وتخندقًا». وعن طبيعة الثورات في عالم رأسمالي، يقول بيات: «تنزع حركات ما بعد الأيديولوجيا إلى الاندثار بمثل ما أثمرت من سرعة. حتى الأبطال الثوريون، إذا ما برزوا، فستنهار مكانتهم بالسرعة ذاتها، مثل منتوجات مطروحة للمستهلكين في الأسواق». وهذا يعني أن الثورة، حتى الثورة، إذا اتفقنا على كونها ثورة، كانت خاضعة لقوانين السوق، ومطالبة بالتجدد كل يومين من أجل جمهور قليل الصبر وبذاكرة سمكية. يعني أن دورة حياة المنتج تنطبق تمامًا على الثورة، أن الثورة سلعة. وقد كان مدهشًا لي على الدوام، أن أغلبنا يكيل بمكيالين دون أن يشعر عندما يتعلق الأمر بالأيديولوجيات. ففي الوقت الذي نشير فيه إلى الحركات القومية أو الماركسية أو الجهادية بصفتها حركات أيديولوجية، كنا ننظر إلى الرأسمالية الغربية بصفتها طبيعة الأمور، مناخ غير أيديولوجي بالمرة، ينتسب إلى قوانين الطبيعة لا إلى الثقافة. لقد فقدنا المسافة النقدية الضرورية للنظر إلى الرأسمالية الغربية باعتبارها تمظهرًا أيديولوجيًا أيضًا، الأمر الذي أكسبها حصانة غير مسبوقة. يقول بيات إن «معاملة النيوليبرالية على أنها طبيعية هو سر قوتها»، إذ «أصبحت معاييرها جزءًا من فهمنا المنطقي السليم للحياة»، وهي النتيجة الحتمية للعيش في عالم أحادي القطب، عالم ما بعد «نهاية التاريخ» المزعومة. العيش مع اللابديل متظاهرون مصريون في ميدان التحرير - الصورة :Getty منذ 2011، بعد الربيع، وأنا - مثل ملايين غيري - أحس بأنني أعيش في عالم سيئ، لكنه عالم سيئ بلا بديل. لقد لحق العطب بخيالنا إلى درجة أعجزتنا عن تخيل بديل معقول وقابل للتطبيق، لا يكون فاشيًا أو عسكريًا أو مشيخيًا أو محكومًا بهرمونات الغوغاء واللاعقلانية. ومنذ الربيع أيضًا، وأنا أتذكر بنجامين، الحمار الحكيم في رواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، الذي يردد دائمًا بأن لا فرق، لا شيء تغير، العالم قبل الثورة لا يزال هو العالم بعد الثورة، لكن بنجامين مع ذلك لم يكف للحظة عن فعل ما يُطلب منه، سيزيف آخر في ديستوبيا الدولة الحديثة. لقد عاش بنجامين عالمًا «بلا بدائل، عالم يفترض واقعًا وحيدًا للجميع، عالم يطلق كلمة مجذوب، وفي أفضل الأحوال كلمة غريب الأطوار، على كل من يعتقدون أن كل شيء له بديل، بما في ذلك أفضل نماذج الحكم وأعمق الأفكار»، بتعبير ليونيداس دونسكيس، وأعتقد بأن هذه هي الفاتورة التي قصمت ظهورنا العربية، العيش وسط «طوفان من الأفكار القدرية والحتمية»، نكسة ثانية لا أقل، مهانة أن لا تستطيع تغيير شيء. ياه يالميدان.. في يوليو 2023، وداخل جامعة إيست آنجليا بمدينة نورويتش البريطانية، تعرفت إلى مجموعة من المترجمين العرب الذين سجلوا في المدرسة الصيفية لخوض مغامرة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية، وكنت محظوظة باختيار روايتي «السندباد الأعمى» مادة لورشة الترجمة. في اليوم الأخير من البرنامج، وبعد أيام قضيناها نفاضل بين الجمل والكلمات، ونراوح بين لغة ولغة، جلسنا على الدرجات في الساحة الخارجية، وبدأنا في الغناء. كانت الإدارة قد طلبت أن يقترح كل مشترك أغنية يراها معبرة عن تجربته في المدرسة الصيفية، واقترحت - ربما لأنني غير معتادة على الاستيقاظ المبكر - أغنية «الحلوة دي» لسيد درويش، ففي قلبي مكان مخصص لعبارة «برضه الفقير له رب كريم». حدث الأمر دونما تخطيط، بدأنا في الغناء، ولأننا شعوب طروب، واصلنا الغناء لثلاث أو أربع ساعات تلك الليلة. اللافت أننا بدأنا في نبش أغنيات كان الاقتراب منها مازوخية محضة: موطني، الحلم العربي، شيد قصورك، يما مويل الهوى، شو هالأيام، زهرة المدائن، وأشياء من هذا القبيل. حاولنا أحيانًا أن نذهب إلى راغب علامة وشيرين ونانسي عجرم وعبد المجيد و«مهرجانات»، لكن الأغنيات الوحيدة التي كنا نحفظها جميعًا كانت الأغنيات التي تؤلمنا. ثم جرى نقاش عن أغنية «ياه يالميدان، كنت فين من زمان»، وكان أكثرهم عاجزًا عن غنائها من فرط الألم، وكان ذلك العطب، ذلك الجرح المتوهج الطازج الذي يكبر في داخلهم منذ عقد، هو شيء أعادني للتفكير في كتاب آصف بيات هذا، وللتساؤل.. اللعنة، كيف نفهم الربيع العربي؟
مشاركة :