تنتظر الحرب في أوكرانيا مسارات «صعبة» الخريف المقبل، لاسيما بعدما تعثر هجوم كييف المضاد هذا الصيف، ومع التقدم الروسي المحرز شمالاً في خاركيف، وسط تقديرات أن يشهد الفصل المقبل «قمة سلام» من شأنها المساهمة في حل النزاع سلمياً، بما قد يتماشى ومصلحة الغرب، الذي يبدو أنه يضغط في هذا الاتجاه، تحت وطأة الصعوبات الاقتصادية الراهنة التي يواجهها عديد من الدول الأوروبية. منذ بداية الحرب قبل 18 شهراً، وتحديداً في 24 فبراير من العام الماضي، اتخذ الأوكرانيون موقف الدفاع في وجه العملية الروسية، قبل التحول إلى «الهجوم المضاد» صيف 2023، الهجوم الذي تم التعويل عليه من قبل كييف وحلفائها في إحراز اختراقات واسعة بمناطق شرقي وجنوبي البلاد، غير أنه لم يحرز تقدماً ملموساً، يلبي طموحات أوكرانيا التي خسرت ٢٠% من أسلحتها المستخدمة بالهجوم في أول أسبوعين فقط، طبقاً لتقديرات مسؤولين أوروبيين وأمريكيين. وبعد مرور أكثر من شهرين على بدء الهجوم المضاد، تكشف خرائط الصراع عن بقاء الوضع على ما هو عليه تقريباً، لجهة سيطرة القوات الروسية على نحو خمس أوكرانيا، باستثناء تقدمات «محدودة، وبطيئة» للقوات الأوكرانية في بعض القرى والمناطق الصغيرة، طبقاً لما تؤكده بيانات القيادة العسكرية في كييف، التي تسعى إلى عزل قوات موسكو في شبه جزيرة القرم، وعرقلة الإمدادات إليها. اصطدمت القوات الأوكرانية - التي كانت مدفوعة بتوقعات أكثر تفاؤلاً، وبدعاية غربية واسعة لمدى قدرتها على التقدم في الهجوم المضاد - بواقع أكثر صعوبة، في ضوء التحصينات الروسية شرقي وجنوبي البلاد، بما أبطأ وتيرة الهجوم، وقلل من نتائجه العملية، الأمر الذي أحبط حلفاء كييف الغربيين، الذين قدموا عتاداً عسكرياً بالمليارات للعملية. تبعاً لتلك المعطيات الميدانية، ثمة دفع للسيناريوهات «التفاوضية» في الخريف، وهو ما عبر عنه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قبيل محادثات السعودية، الذي أعرب عن أمله في عقد «قمة سلام» هذا الخريف. كما تحدث وزير خارجيته، دميتري كوليبا، عن مطالبات واسعة للجلوس على طاولة المفاوضات مع موسكو، واصفاً المشهد في الخريف المقبل بأنه «سيكون صعباً» على بلاده. كما دعا الوزير إلى ما وصفه بـ«النهج الإبداعي»، الذي يكفل عدم الجمع بين زيلينسكي، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، على «مائدة مفاوضات واحدة»، فيما لم يستبعد تقديم موسكو «تنازلات محتملة» على حسب الظروف. روسيا من ناحيتها، منفتحة على الدخول في مفاوضات، لكن دون «شروط مسبقة»، يدعمها في ذلك الأمر الواقع، ما أحرزته على الأرض، الذي تتمسك به ضمن أي رؤى وتحركات لحل دبلوماسي، أي بما يحفظ لها مكاسبها المحققة دون تفريط فيها، لاسيما فيما يخص المناطق الأربع (دونيتسك، ولوغانسك، وزابوريجيا، وخيرسون) بعد إعلان ضمها سبتمبر الماضي. أسباب تعثر الهجوم المضاد ثمة عوامل عدة أدت إلى تعثر الهجوم المضاد، يحددها في حديثه مع «البيان»، الكاتب والباحث الروسي، ديميتري بريجع، الذي ينوه إلى أن الهجوم المضاد لم يثبت حتى الآن فعاليته أو يعطي نتيجة حاسمة على الأرض. أول تلك العوامل، مرتبط بعدم توافر التغطية الجوية، على اعتبار أن «العمليات البرية تحتاج إلى تغطية من الطائرات، وهذا لم يحدث، بينما لم يكتمل بعد تدريب الطيارين الأوكرانيين، طبقاً للمعلومات المتاحة». أما ثاني العوامل، فيتعلق باستراتيجيات القوات الروسية في صد الهجوم، خصوصاً لجهة الاعتماد على العبوات المتفجرة على خط الجبهة، بالتالي لم يكن من السهل لا على دبابات «ليوبارد»، وناقلات الجند المدرعة، التقدم في هذه المناطق، فتلك الألغام تقيد، إلى حد كبير، القوات الروسية في التصدي للدبابات والأسلحة الأوكرانية. كما كان الروس قد استبقوا الهجوم المضاد بإجراءات تحصينية للجبهة، تضمنت: حفر الخنادق، وتثبيت صائدات الدبابات أو ما يعرف باسم «أسنان التنين»، علاوة على زرع الألغام، بما وضع عقبات واسعة أمام تقدم القوات الأوكرانية. أما ثالث العوامل المؤدية إلى تعثر الهجوم المضاد هذا الصيف، في تحليل بريجع، فيرتبط بالاستراتيجية العسكرية الأوكرانية، على اعتبار أن الهجوم المضاد يتطلب بيئة معينة مع استغلال الثغرات لدى القوات الروسية، بينما القوات الأوكرانية لم تكن لديها خطة استراتيجية قوية، واضحة، لإيجاد تلك الثغرات، واستهدافها على النحو الذي يضمن لها التقدم في الوقت المناسب. وينوه إلى أن «القوات الأوكرانية حاولت استهداف بعض الثغرات، واستهداف مناطق مهمة للقوات الروسية، لكن ذلك لم يغير شيئاً على الجبهة». فيما لا يعتقد الباحث والكاتب الروسي، أن البيئة مهيئة الآن لمحادثات سلام في الخريف - كما يدعو عديد من الأطراف -، لكنه يرى أن الأجواء قد تكون ملائمة بعد الانتخابات الرئاسية في روسيا مارس المقبل، وتتوقف على نتائجها، التي إما أن تقود إلى سيناريوهات الحرب الشاملة أو السلام (..).يشار هنا، إلى أنه منذ بدء الهجوم المضاد صيف 2023، لم تنجح القوات الأوكرانية سوى التقدم على مسافة 16 كيلومتراً، بحسب تحليل مستقل لشبكة «بي بي سي»، وهو تقدم أبطأ مما كانت تأمل فيه كييف وحلفاؤها في الغرب. تداعيات تعثر الهجوم المضاد بحسب الأستاذ الزائر بكلية «الاستشراق» في المدرسة «العليا للاقتصاد» بموسكو، رامي القليوبي، هناك تداعيات عدة لتعثر الهجوم الأوكراني المضاد، في مقدمتها: توجه محتمل لكييف نحو شن أعمال تخريبية، ذات طابع هجين، تستهدف العمق الروسي، سواء في شبه جزيرة القرم، أم في موسكو، والمناطق الحدودية بواسطة المسيرات، وكذلك مساعٍ أوكرانية لنسف التجارة الدولية الروسية عبر استهداف ميناء «نوفوروسيسك»، الذي يعد بوابة تجارية رئيسة لموسكو في البحر الأسود. ويصرح القليوبي لـ«البيان»، إن عوامل عدة أسهمت بدورها في تأخر الهجوم المضاد، من بينها: بطء الغرب في تسليم الأسلحة إلى كييف، خوفاً من رد الفعل الروسي، ما أدى إلى خروج الخلافات الأوكرانية الغربية إلى السطح خلال «قمة الناتو» الأخيرة، إذ أتاح ذلك الهامش من الوقت لموسكو إقامة تحصينات، وزرع ألغام في المناطق التي تسيطر عليها جنوبي شرق أوكرانيا، موضحاً في الوقت نفسه أن «الجيش الروسي في الأساس جيش دفاعي أكثر منه هجومي، ودقته وفعاليته في الدفاع أكبر، على اعتبار أنه بني في العقود الماضية، انطلاقاً من رؤية أنه لن تحدث حرب كبرى جديدة في أوروبا». وحول فرص نجاح أي قمة للسلام الخريف المقبل، كما دعا الرئيس الأوكراني، لا يعتقد الأستاذ الزائر بكلية «الاستشراق» في المدرسة «العليا للاقتصاد» بموسكو، أن الوقت مناسب خلال المرحلة الحالية للحديث عن قمة للسلام، لاسيما في ظل عدم وجود أرضية مشتركة بين الطرفين، مردفاً «رغم متاعب كل طرف عسكرياً واقتصادياً، إلا أنهما لا يزالان قادرين على إقناع الرأي العام بضرورة عدم التنازل، بالتالي لا توجد أرضية للمفاوضات طالما لم يبد أي طرف جاهزيته لتقديم تنازلات». قرار «السلام» ليس بيد أوكرانيا! من جانبه، يتبنى خبير الشؤون الروسية، المحلل السياسي من موسكو، مسلم شعيتو، الرأي القائل إن «الدخول في مفاوضات» ليس قراراً أوكرانياً مباشراً، إنما هو قرار من يقرر لكييف، ويدير الحرب (في إشارة صريحة للغرب: أوروبا، والولايات المتحدة)، مبيناً، لدى حديثه مع «البيان» بقوله: «يتعين أن نرى ما مصلحة الغرب في وقف هذه الحرب، أو تجميدها، أو حتى نقلها لمنطقة أخرى»، في إشارة لتبعات الحرب على أوروبا، لاسيما لجهة الآثار الاقتصادية الناجمة عن العقوبات المفروضة على موسكو. تبعاً لذلك، يرى شعيتو أن تعثر الهجوم المضاد «قد لا يكون سبباً مباشراً في دخول أوكرانيا في مفاوضات سلام في الخريف»، مشيراً إلى أن «كل ما يتطلع إليه الرئيس الأوكراني هو ما يملى عليه من الغرب (..)». ويعتقد شعيتو أن تعثر الهجوم المضاد له أسبابه العسكرية، والسياسية، ذلك بعدما ضخمت الدعاية الإعلامية الغربية، قدرات الجيش الأوكراني، وقللت من القدرات الدفاعية الروسية، ولم تستوعب أن موسكو حتى الآن، لم تعلن الحرب! إنما لا تزال عملية عسكرية خاصة محدودة، كما فسروا الانسحابات الروسية بأنها خسارة، وليس على اعتبارها تراجعاً تكتيكياً للاستعداد للدفاع الإيجابي. ويضيف «هناك خسائر سياسية، واقتصادية (تمنى به أوروبا)، بينما رغم محاولاتهم لفرض عقوبات وصلت إلى 13 ألف عقوبة على موسكو، لم تفلح تلك العقوبات في تغيير الكثير في الحياة اليومية للشعب الروسي»، على حد وصفه، مبرراً ذلك بالعلاقات التي بنتها روسيا مع كثير من الدول، بما في ذلك الدول التي تقف على الحياد، التي تحولت من تبعية مطلقة للغرب، والولايات المتحدة إلى الموقف الحيادي، وهو ما عده انتصاراً للموقف الروسي، الذي يطرح فكرة تعدد الأقطاب كفكرة مغرية لأكثر دول العالم، خصوصاً تلك التي تستطيع أن تلعب دوراً محورياً (..)». خيارات صعبة يواجه زيلينسكي معضلة واضحة في مسار علاقته مع الغرب، بينما يحتاج إلى دعم الغرب له (الدعم الذي قد يتأثر بعدم نجاحه ميدانياً في حسم الحرب)، فإنه يبحث في الوقت نفسه عن تأمين حلفاء جدد لمواصلة القتال، طبقاً لتحليل نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، أشارت فيه إلى «خيارات صعبة» أمام الأوكرانيين. وذكر الرئيس الأوكراني خلال لقائه أخيراً مجموعة من الدبلوماسيين، أن ثمة ضغطاً غربياً سوف يتعاظم خلال الأشهر المقبلة، لدفع كييف نحو الحل السلمي للحرب مع موسكو، واصفاً الوضع على أثر ذلك بأنه سيكون «أكثر صعوبة». وأكد في الوقت نفسه أن الحل الوحيد للخروج من الأزمة «كسب الصراع مع موسكو». ضغوط أمريكية في هذا السياق، يعتقد الباحث في الشؤون الدولية، رضوان قاسم، أن الدعم الغربي لأوكرانيا «مستمر حالياً بسبب الضغوط الأمريكية فقط، لأن أهم الدول الداعمة هي ألمانيا بعد الولايات المتحدة، يليها فرنسا، والدولتان أصبحتا منهكتين اقتصادياً، وأصبح لديهما الكثير من المشكلات الداخلية، خصوصاً فيما يخص تنامي الأحزاب اليمينية المتطرفة، وصعودها بشكل سريع جداً، لاسيما في ألمانيا». لهذا، بدأ الحديث عن السعي لإيجاد باب للتفاوض «لأنهم وصلوا إلى حائط مسدود بفعل الدعم الذي لم يأت بنتيجة»، طبقاً لقاسم، الذي يقول في حديثه مع «البيان»، إن «الدعم الأوروبي قد يتوقف حال وجود ثغرة، أو تحقيق انتصار ولو جزئي، أو حتى معنوي، للذهاب إلى مفاوضات.. على الأرجح سوف يستندوا إلى شريكهم التركي في الوساطة، لكن يمكن أن تسعى الولايات المتحدة نحو إيجاد «أوكرانيا بديلة»، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط.. هذا ما لا نتمناه، لأن الأماكن الأخرى سوف تكون عصية عليها». تابعوا أخبار العالم من البيان عبر غوغل نيوز طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :