قرار مجلس الوزراء بإنشاء هيئة مستقلة للتأمين، جاء في الوقت الذي يحتاجه القطاع، ويخدم مصالح المواطن، وأيضًا يحتاجه البنك المركزي السعودي، فهذا الجهاز السيادي المستقل الأفضل له تكريس جهده ووقته للتركيز على تنميه القطاع البنكي والاهتمام بالمنتجات البنكية الرقمية المتنامية، لذا سرعة إنشاء هيئة التأمين تخدم هذه الحاجة الوطنية، وتعكس الروح الجديدة في البنك المركزي. فبعد سنوات الاحتضان يحتاج قطاع التأمين إلى الانطلاق بجهد جديد حتى يواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لبلادنا، وحتى يكون سندًا للمواطن والتاجر وليس عبئاً عليهما. قبل بضعة أشهر شهدنا حوارًا واسعًا حول التأمين، فقد ارتفعت الأسعار بنسب عالية مزعجة، سواء في الجانب الصحي أو في المركبات، وهذه التكلفة مرهقة للقطاعات الحكومية والخاصة والخيرية والأفراد، حيث ترتب على هذه الزيادة تقلص المنافع التأمينية وارتفاع نسبة التحمل. القريبون من القطاع لم يستغربوا هذه الارتفاعات المتصاعدة، فالقطاع يواجه تحديات كبيرة، فتوسع الطلب على الخدمات الصحية الخاصة ترتب عليه ارتفاع في التكاليف نتيجة المبالغة في صرف الأدوية وطلب التحاليل والأشعة وغيرها. أيضًا في قطاع السيارات ارتفعت التكاليف بشكل شبه مضاعف، وهذا نتيجة طبيعية للخلل الكبير في منظومة سوق السيارات، بالذات في ورش تصليح السيارات، وتراجع خدمات الوكالات، وكثرة الحوادث المرورية. هذا الارتفاع في تكلفة تقديم الرعاية الطبية والخلل في قطاع السيارات من يتحملها؟ المؤسف.. ترحل إلى التكلفة النهائية إلى المستهلك. وهذا هو السلوك الطبيعي للممارسات الرأسمالية التي تدع تحديد الأسعار لآلية العرض والطلب. والآمر المؤكد أن هذه الآلية مدفوعة بغريزة النمو والتفوق لن تكون عادلة مع المستهلكين، وتحقيق العدالة في الأسواق يحتاج إلى جهد كبير في كفاءة التشريع والتنظيم وفي المراقبة، فهذه هي التي تضمن العدالة والشفافية للأسواق، وهذه مسألة لن تتحقق بسهولة، وهو الذي يدفع الحكومات للتدخل والسيطرة على القطاعات الحساسة لحياة الناس وللسلم والاستقرار الاجتماعيين. أهمية قيام هذه الهيئة أعادني إلى نهاية التسعينيات الميلادية، حيث كان الحوار الإعلامي وقتها يتنامى مبرزا أهمية قطاع التأمين، وحينها كنا نرى أن الاقتصاد الذي يتبنى سياسة الأسواق الحرة المفتوحة لا يمكن أن يعمل دون أداتين مهمتين وهما: الضرائب والتأمين. إنهما جزآن أساسيان في الاقتصاد الرأسمالي ولهما أهمية كبيرة في تعزيز استقرار النظام الاقتصادي وتحقيق العدالة الاقتصادية. فالتأمين آلية مهمة لحماية الأفراد والشركات والممتلكات من المخاطر والخسائر المفاجئة، مما يشجع على الاستثمار والتجارة والنمو الاقتصادي. وبفضل التأمين، يستطيع الأفراد التعامل مع المخاطر بثقة، وتحقيق الأرباح المرجوة دون قلق. كذلك التأمين يرفع (كفاءة الإدارة) في المنشآت ويعزِّز المسؤولية والمسألة. أما الضرائب، فهي أداة مهمة لتمويل الخدمات العامة والبنية التحتية للدولة، وتلبية احتياجات المجتمع بشكل عام. إضافة إلى ذلك، تُستخدم الضرائب كوسيلة لإدارة الاقتصاد وتوجيه الاستثمارات لـ(القطاعات الأكثر إنتاجية)، وهي أيضًا وسيلة للتوزيع العادل للثروة وتقليل الفوارق الاقتصادية. التأمين والضرائب المداران بكفاءة يعزِّزان الثقة في النظام الاقتصادي ويحميان المجتمع والاقتصاد من التعرض للخسائر المفاجئة. عندما صدر نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني منصف عام 2003م، قدر المختصون وقتها بأنه صيغ بتحفظ شديد نتيجة التحفظات المطروحة حول التأمين. وحتى تنفيذه تم بهدوء، حيث أُحيل إلى مؤسسة النقد، وكان هذا مصدر استغراب! لأن البنوك المركزية نطاق عملها يختلف.. لكن فسر الأمر بكونها الجهة الأقرب للإشراف على تنفيذ النظام بحكم تداول الأموال. والتركيز على هذا الجانب أبعد عن الاهتمام بالأمور الحيوية للتأمين التي يجب على جهات التشريع والتنفيذ إدراكها والعمل عليها في صناعة التأمين. ويبدو أن الفرحة بصدور النظام حينئذ أجلت النظر في الأمور الجوهرية التي كنا نأملها من هذا القطاع. وأهمية القطاع وضرورة تنميته نجدها في تعليق محافظ البنك المركزي أيمن السياري الذي أوضح أهمية قرار مجلس الوزراء لمستقبل قطاع التأمين الذي أمامه فرصة كبيرة للنمو والتطور (ليكون ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني ويعزِّز من منظومة إدارة المخاطر). وتوقع المحافظ (أن يساهم وجود كيان مستقل موحّد معني بتنظيم قطاع التأمين بالمملكة في تعزيز كفاءة هذا القطاع ورفع مساهمته في الناتج المحلي غير النفطي، ومواكبة تطورات صناعة التأمين حول العالم). وأشار السياري إلى أن الهيئة الجديدة ستكمل مسيرة البنك المركزي السعودي في تطوير قطاع التأمين، بتوفير البيئة المناسبة؛ لخلق كيانات تأمينية قوية قادرة على المنافسة والنمو، ودعم استقرار قطاع التأمين بشكل خاص، والاقتصاد الوطني بشكل عام، وضمان عدم التأثير على مصالح المستفيدين وحملة الوثائق. وأضاف المحافظ أن قطاع التأمين شهد تحت مظلة البنك المركزي السعودي العديد من التطورات في البنية التشريعية والتنظيمية والفنية، بما فيها مواكبة تطورات التقنية المالية، وتقديم الخدمات والمنتجات المبتكرة، إضافة إلى إطلاق مبادرات تُعنى بدعم المراكز المالية للشركات، وتطوير كوادر وطنية فنية متخصصة. طبعاً ثمة تحديات رئيسية للقطاع نأمل أن تعمل عليها الهيئة الجديدة حتى نحقق مستهدفات الرؤية من القطاع، فحتى يقترب القطاع من النسب العالمية يُفترض زيادته مساهمته في إجمالي الناتج المحلي غير النفطي إلى 4.3 % في 2030 . أيضاً نحتاج إلى مراجعة الخلل في هيكل سوق التأمين، ففي عام 2022م استحوذت أكبر 8 شركات تأمين على 77.5 % من إجمالي أقساط التأمين المكتتبة. كذلك نحتاج تنويع النشاط، ففي السنوات الماضية حافظ التأمين الصحي بشقيه الإلزامي والاختياري على مكانته كأكبر نشاط تأميني، حيث بلغت حصته 59.7 % من إجمالي أقساط التأمين المكتتبة في عام 2022م. بعده احتل التأمين على المركبات المرتبة الثانية بنسبة 19.4 %. كذلك نرجو أن تنظر الهيئة في العوامل التي تحد من توسع نشاط تأمين الحماية والادخار. هذا يشكل أقل حصة في سوق التأمين، حيث انخفض من 4.1 % في عام 2021م ليبلغ 3.5 % في عام 2022. وفي هذا الجانب سبق لوزير المالية أن أكد على أن (الطموح أعلى بكثير في رؤية 2030 على تقديم منتجات ادخارية، ويتم العمل حالياً مع البنك المركزي على حث القطاع الخاص على تطوير منتجات ادخارية تقدم للمواطنين والمقيمين عن طريق شركات التأمين). قطاع التأمين في المملكة يضم الآن عشرات الشركات، وأغلب هذه الشركات تعاني من عدم استقرار أوضاعها المالية. وهذا يحتاج إلى استمرار الجهود السابقة لحفز الشركات على الاندماجات وإعادة الهيكلة والرسملة لتعزيز الربحية. حققت شركات التأمين صافي دخل قدره 689 مليون ريال خلال عام 2022 مقابل خسارة قدرها 47 مليون ريال خلال عام 2021 . مواجهة هذه التحديات أمام قطاع التأمين ضرورية حتى نعظم القيمة الاقتصادية لهذا القطاع حتى يفتح أسواقًا ومنتجات جديدة بعيدًا عن التركيز على التأمين الصحي، والأهم: يوجد الوظائف لشبابنا.
مشاركة :