مثقف "صيفي" وآخر "شتوي" ونهاية عصر النخبوية الثقافية

  • 8/25/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الكثير من المثقفين يرفعون شعارات ما عادت تصلح لعالم اليوم، ويطرحون رؤى أحادية حتى لمفهوم الثقافة نفسها. إذ نجد تحت شعر الالتزام السياسي أو الرسالة الثقافية أو الفن الهادف الكثير من الممارسات التي لا تجد لها جمهورا، بسبب قصور فيها وتصوراتها القاصر للفعل الثقافي وإغفال مبدأ التطور. هل يمكن أن نفرّق بين مثقف “صيفي” وآخر “شتوي”؟ نعم، يمكن ذلك، ودون مفاضلة بين الاثنين وتبجيل شخصية ثقافية أو فنية تنشط في قاعات مغلقة ويحضرها جمهور من ذوي المعاطف السميكة، عن أخرى تعرض إنتاجها في مسارح الهواء الطلق، ويتابعها حضور يرتدي ما خف من ثياب ويلعق الآيس كريم. طبعا، ليس بمثل هذا التصنيف الفصلي والموسمي، ولا بهذا التسطيح الذي قد يبلغ في أذهان بعضهم حد الاستهتار ومقاربة الثقافة والفنون بالملابس والأكسسوارات، لكن الأمر يحمل وجهة نظر تبدو منطقية. الثقافة والترفيه أبسط البديهيات تعرّف الثقافة والفنون على أنها جاءت لتلبي حاجات الإنسان الفكرية والذهنية والروحية والمعيشية أيضا أبسط البديهيات تعرّف الثقافة والفنون على أنها جاءت لتلبي حاجات الإنسان الفكرية والذهنية والروحية، والمعيشية أيضا، لتميزه عن سائر الكائنات الحية. وعليه، فإنه من الطبيعي أن يقيم هذا “الحيوان الاحتفالي” للنشاطات الفنية والفكرية، المعارض والندوات والمهرجانات، وفق مقتضى الحاجة والتكيف مع الفصول والمواقيت والإمكانيات المعيشية. وبما أن السنوات الثقافية تقع برمجتها عادة، وفي مختلف أنحاء العالم، ابتداء من فصل الخريف مرورا بالشتاء والربيع، فإن الصيف قد جُعل للفرفشة والترفيه، ولكن مهلا. هل تعني كلمة “الترفيه” ذلك النمط الذي يفهمه الكثير منا على أنه حالة من الفرفشة والتسيب والاستهتار بالقيم الجمالية والتعبيرات الراقية؟ غالبية من الناس في عالمنا العربي تربط العطلة بـ”العطالة”، وتربط ما خف من ثياب بما “خف من أفكار”، وذلك على اعتبار أن الصيف فصل مرتبط بالهزل والمزاح والابتعاد عن الجدية والرصانة، وكذلك يربطون السياحة بالرفاهية الزائدة عن الحاجة، ولزوم ما لا يلزم. ومن المثقّفين من سقط في هذا الفخ واعتبر ضحالة ما يقدم على الساحة الثقافية مردّه تراجع منطق الالتزام الفكري في ممارسة رموز الثقافة والفن من ناحية وأعمالهم من ناحية أخرى. ويمضي بعضهم في ربط هشاشة وركاكة ما يقدم من مشاريع ثقافية كون الدولة أصبحت في بعض جوانبها تعتمد الترفيه بدل التثقيف، والقبول بالرداءة والاستهلاك بدل الامتياز والإبداع، فضلاً عن ضمور المشاريع الفكرية والنقدية الكبرى والملهمة من الساحة الثقافية العربية. الفهم المتجهم للثقافة والفنون مازال يسيطر على بعضهم معتقدين أن كل ما هو مبهج يصب في خانة الميوعة الفهم المتجهم للثقافة والفنون مازال يسيطر على بعضهم معتقدين أن كل ما هو مبهج يصب في خانة الميوعة وينخرط بعضهم في هذا الحكم التعميمي كالباحث التونسي زهير الذوادي الذي يرى أن سبب تدني الإنتاج الثقافي يكمن في “تسرب المنطق التجاري والسلعي لقطاعات الإنتاج الفكري والثقافي والإعلامي، وتراجع مكانة المثقف بالمجتمع في خضم التحولات التي عرفها”، محملا المسؤولية إلى عوامل الاقتصاد والسياسة، ومجالات التواصل الاجتماعي والاتصالي. الحقيقة أن ربط الثقافة بالترفيه لا يقلل من شأنها بل يعطيها قيمة مضافة، على اعتبار أن الترفيه حاجة إنسانية ملحة تفرضها سيرورة المجتمعات المتطورة، وتحفزها نحو عيش كريم. مازال ذلك الفهم المتجهم للثقافة والفنون يسيطر على أذهان بعضهم معتقدين أن كل ما هو مبهج يصب في خانة الميوعة والاستهتار والتسطيح. إن من يعيبون على الثقافة الدور الترفيهي يجردون من الإنتاجات الفكرية والفنية طابعها الإنساني وبعدها الاحتفالي، فكأنما مكانها الطبيعي هو في المتاحف والمكتبات والقاعات المغلقة على بعض المتثائبين. في أواخر التسعينات، قامت الدنيا ولم تقعد ضد وزارة الثقافة التونسية حين أضافت كلمة “الترفيه” إلى تسميتها الرسمية، وكان ذلك أيام الوزير عبدالباقي الهرماسي، السوسيولوغ والمفكر المعروف. ذريعة أولئك المتحاملين من غير وجه حق، أن الثقافة يجب أن تكون “منزهة” عن مهمة الترفيه الذي يرتبط في نظرهم بالعامة والغوغاء. الشعارات المغلوطة الثقافة والفنون.. رؤية كونية شاملة تتعلق بكل ما يخص الإنسان الثقافة والفنون.. رؤية كونية شاملة تتعلق بكل ما يخص الإنسان لا خير في فعل ثقافي أو فني لا يدخل إلى نفوس جمهوره البهجة والانشراح. ألم يسمّي الفيلسوف الألماني المعروف فريديريك نيتشه كتابه “بهجة المعرفة” أم أن الترفيه لا يليق بالنخب الثقافية؟ وفي السعودية التي ربطت الثقافة والترفيه بالتنمية البشرية والاقتصادية ضمن رؤية عشرين ثلاثين، استطاعت المملكة أن تحقق قفزات خيالية أذهلت العالم في شتى المجالات، وذلك لما تميز به المشروع من رؤية كونية شاملة تتعلق بكل ما يخص الإنسان. هدف الهيئة العامة للترفيه إلى تحقيق رؤية 2030 في تنويع الاقتصاد ورفع مستوى جودة الحياة للمواطنين، ويعد التنفيذ الذاتي للأعمال الترفيهية وسيلة فعالة لتحقيق تلك الأهداف وأيضًا من خلال إستراتيجيات موجهة لأعمالها وأنشطتها، الأمر الذي صحح من مفاهيم التنمية وقوّم اعوجاجها. وبعد هذا النموذج الفصيح لربط الثقافة بالترفيه، كيف ينكر واحد على الإنسان رفاهيته باسم الثقافة؟ أمر في غاية الغرابة والاغتراب عن الذات والمجتمع والواقع. أغلب الاعتقاد أن هذه الرؤية القاصرة حول انتقاد ربط الثقافة بالترفيه قد صنعتها العقول المتحجرة أو كرّسها أولئك المنتفعون من إقطاعيّي الثقافة الذين يريدون تحويل المجالات الفكرية والفنية إلى مزارع خاصة ومغلقة على أصحابها غير آبهين بتطور المجتمعات وانفتاح جميع القطاعات على بعضها بعضا. وبالعودة إلى ثنائية “مثقف صيفي ومثقف شتوي” التي بدأنا بها هذه السطور، فإن من لا يفهم احتياجات المجتمع الذي يعيش فيه فقد حكم على نفسه بالعزلة، ذلك أن عصر النخبوية الثقافية قد انتهى، وحل زمن انفتاح كل الفئات والقطاعات على بعضها من أجل هدف أسمى هو رفاهية الإنسان. انتهى عصر المدارج الفارغة والمعارض الخاوية والقاعات المهجورة باسم علوية الرسالة الثقافية وصقل العقول وتهذيب الذائقة، وهلمّ جرا من تلك الشعارات المغلوطة والمردودة على نفسها لأن لا قيمة لثقافة دون جمهور مرفه ومبتهج في الصيف وفي الشتاء.. وفي كل الفصول.

مشاركة :