في مايو 2021، أصدرت وكالة الطاقة الدولية (1EA)، وهي المنظمة الاستشاريةللطاقة في العالم الغربي التي تأسست بعد صدمة أسعار البترول في عام 1973، تقريرامثيرا للدهشة بعنوان "الحياد الصفري بحلول عام 2050: خارطة طريق لقطاعالطاقة العالمي"، وتبنى هذا التقرير فكرة نهاية جميع الاستثمارات الجديدة فيالبترول والغاز (ناهيك عن الفحم) بدءا من عام 2021. وكما هو متوقع، قوبلت "خارطة الطريق" لوكالة الطاقة الدولية بدعم قوي من مثيريالمخاوف حيال "حالة الطوارئ المناخية". فمثلا، أشادت مبادرة (Climate+IOO Action) التي تضم مجموعة من المستثمرين بأصول تحت إدارتها بقيمة IA-تريليون دولار بالتقرير بوصفه "نقطة تحول"، مكررة دعوة وكالة الطاقة الدولية إلىإنهاء الاستثمارات الجديدة في الوقود الأحفوري فورا. ولكن مع ذلك، أثارت هذهالخارطة عند العاملين في الصناعة موجة سخرية عارمة. فعلى سبيل المثال، وصفوزير الطاقة السعودي، التقرير بأنه تكملة لفيلم "لا لا لاند". ليس مستغربا أن تكون تقييمات التقرير متباينة لدى من هم داخل مشهد العملالمناخي وخارجه. ولدينا الآن تحليل مفصل عن تقرير وكالة الطاقة الدولية الذيأعدته ونشرته مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة (EPRF) الأسبوع الماضي، بتمويلمن مؤسسة ريل كلير (Foundaion Clear Real)، وتحرير روبرت داروال، مؤلفكتابين يحملان رؤى عميقة حول النقاش المناخي. ومن خلال هذا التحليل يمكنالآن كشف الافتراضات والاستنتاجات الواردة في تقرير وكالة الطاقة الدولية. الافتراضات التي يستند عليها تقرير وكالة الطاقة الدولية تبلغ عدد صفحات تحليل مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة أكثر من 70 صفحة، معحواشي ختامية مفصلة تتضمن روابط تساعد من يرغبون في إجراء أبحاثهم الخاصةعن هذا الموضوع. ولكن قبل الخوض في النتائج الأساسية للتحليل، فإن وصفاموجزا لـ"خارطة طريق" وكالة الطاقة الدولية سوف يساعد القراء على استيعابسياقها. قدمت وكالة الطاقة الدولية تقريرها باعتباره "أول دراسة شاملة فى العالم حول كيفيةالتحول إلى الحياد الصفري لنظام الطاقة بحلول عام 2050 مع ضمان إمداداتطاقة مستقرة وبأسعار معقولة، وتوفير وصول عالمى للطاقة، وتمكين نمو اقتصاديقوي". وبزعم التقرير أن خارطته تحدد "مسارا فاعلا من حيث التكلفة ومنتجا منالناحية الاقتصادية" نحو "اقتصاد طاقة مرن تهيمن عليه مصادر الطاقة المتجددةمثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بدلا من الوقود الأحفوري". وتشير وكالة الطاقةالدولية في بداية التقرير إلى أن التحدي الهائل المتمثل في استبدال نظام الطاقةالعالمي الشاسع والمعقد الذي بني على مدى قرنين من التطور الصناعي التراكمي"يشكل أيضا فرصة عظيمة لاقتصاداتنا، مع إمكانية توفير ملايين فرص العملالجديدة وتعزيز النمو الاقتصادي". في البداية، قد يشك المراقبون الملمون بالاقتصاد بالفعل من أن تقرير وكالة الطاقةالدولية يعاني من "مغالطة النوافذ المحطمة" تلك التي طرحها لأول مرة الاقتصاديالفرنسي كلود فريديريك باستيات (1801 -1850)، والتي تشير إلى أن تحطيم النوافذيولد طلبا على خدمات صاني الألواح الزجاجية، وبالتالي يكون ذا فائدة صافيةللمجتمع. وتكمن هذه المغالطة في حقيقة أنها لا تأخذ بالحسبان التكلفة التييتكبدها أصحاب النوافذ المحطمة الذين كان بامكانهم الاستفادة أكثر من الأموالالمصروفة على إصلاح هذه النوافذ. ويؤكد الاقتصاديون المحترفون في وكالة الطاقة الدولية أن تفكيك نظام الطاقةالعالمي الشاسع الذي يدعم الاقتصاد العالمي من أجل دعم تقنيات الطاقة الشمسيةوطاقة الرياح والبطاريات منخفضة الكثافة، سيكون ذا فائدة صافية للاقتصاداتالوطنية حول العالم. إن الجهل الاقتصادي المطلق، لما يفترض أنه المركز المعتمدلأبحاث الطاقة في الجزء الغني من العالم، يعد أمرا محيرا على أقل تقدير. مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة تكشف التفكير السحري لوكالة الطاقة الدولية إن أفضل السيناريوهات الممكنة التي وعدت بتحقيقها وكالة الطاقة الدولية في رؤيتهابعنوان "الحياد الصفري بحلول عام 2050" (نظام طاقة أنظف مع إضافة صافيةلملايين الوظائف ذات الأجور المرتفعة) سوف تتحقق إذا قام صناع السياساتبوضع حد فوري للاستثمارات في جميع المشاريع التنموية الجديدة للوقودالأحفوري، وحظر المركبات ذات محركات الاحتراق الداخلي بحلول عام 2035 ،وإيقاف جميع انبعاثات الكريون في قطاع توليد الطاقة بحلول عام 2040. ولعل الافتراض الأهم في خارطة الطريق نحو الوصول إلى الحياد الصفري التيوضعته وكالة الطاقة الدولية هو أن انخفاض تكاليف تقنيات طاقة الرياح والطاقةالشمسية والبطاريات، سيؤدي سريعا إلى إزاحة الطلب على الوقود الأحفوري الذييشكل حاليا 82% من إمدادات الطاقة الأولية في العالم، وفقا لأحدث نشرة إحصائيةسنوية لشركة بريتيش بتروليوم (BP)، (لا تحظى الطاقة النووية بأي ذكر تقرببا). وتستند كل مزاعم وكالة الطاقة الدولية المتعلقة بمستقبل "الحياد الصفري" علىهذا الافتراض. وإذا استبعدنا "الطاقة المتجددة" الرخيصة والفعالة التي يفترض أنتوفرها تقنيات طاقة الرياح والطاقة الشمسية والبطاريات، فإن جميع جهود الدعمالتي تدعو إليها وكالة الطاقة الدولية - بالتوازي مع تصورات أوروبا الخضراء- ستنهارفي آن واحد، وتصبح شيئا من الماضي. ويؤكد تقرير وكالة الطاقة الدولية أن "تقنيات الطاقة المتجددة التي تتناقص تكلفتهاباستمرار، تمنح الكهرباء الأفضلية في السباق نحو الحياد الصفري". وفي توقعاتهاحتى عام 2050، يؤدي الاعتماد الإضافي للألواح الشمسية وتوريينات الرياح إلى زيادةحصتها في توليد الكهرباء من 10% في عام 2021 إلى 69% في عام 2050 وحىأنحاء العالم، يجبتنتشر الكهرباء منخفضة الكربون على نطاق واسع في جميعالاستمرار في تخفيض التكاليف اللازمة في الطاقة الشمسية الكهروضوئية وطاقةالرياح البحرية. وستنخفض تكاليف رأس المال للطاقة الشمسية الكهروضوئية لتصلإلى نسبة تتراوح بين ٥٧ % و٦٣% بحلول عام 2050 ، وتصل طاقة الرياح البحرية إلىنسبة تتراوح بين 60%و 68% . ويشير تحليل مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة إلى أن التوقعات المتفائلة لوكالةالطاقة الدولية المتعلقة بازاحة كل من طاقة الرياح والطاقة الشمسية للوقودالأحفوري شي توقعات وهمية. ويعزى انخفاض تكاليف وحدات الطاقة الشمسيةالكهروضوئية إلى ممارسات التصنيع الصينية التي تتمتع بحجم اقتصادي هائل،وإمدادات الطاقة الرخيصة القائمة على الفحم، والدعم "الاقتصادي السياسي" منالحكومة المركزية والحكومات المحلية الصينية التي مارست التسعير الطاردللمنافسين في أسواق التصدير. ويفشل تقرير وكالة الطاقة الدولية للحياد الصفري في الأخذ بالاعتبار وجود خطوطنقل إضافية عالية الجهد لربط مولدات الطاقة المتجددة بمراكز الطلب البعيدة،والزيادات الكبيرة في مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة. ونظرا للتكاليف الباهظةلتخزين البطاريات على نطاق الشبكة، فإن الطاقة المتقطعة التي تعتمد على الطقسوالتي توفرها تقنيات طاقة الرياح والطاقة الشمسية لا تزال تعاني من عدم كفاية سعةالتخزين. وهذا يفرض تكاليف ضعف الشبكة، حيث يحتاج مشغلو النظام إلىالموازنة المستمرة بين التقطع والطاقة القابلة للتوزيع من مولدات الطاقة المعتمدةعلى الفحم والغاز الطبيي. وتؤكد دراسة مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة علىالعلاقة بين تكاليف الانقطاع وتكامل نظام الطاقة. وتظهر بيانات يوروستات(Eurostat) حالة ارتفاع أسعار الكهرباء للمنازل في 28 دولة أوروبية في ظل وجودنسبة انقطاع مصادر الطاقة المتجددة في توليد الطاقة. وتشير دراسة مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة أيضا إلى أن العالم سوف يحتاج إلىاستخراج كميات هائلة من المعادن المهمة المستخدمة في الألواح الشمسيةوتوريينات الرياح والبطاريات وشبكات الكهرباء. وتنص الدراسة إلى أن "الحاجةالمتزايدة للمعادن المهمة، وخاصة الليثيوم والجرافيت والكوبالت والنيكل، سوفتصل إلى 1800% على الأقل بحلول عام 2040 ، حتى لوكان ذلك فى سيناريو أقلطموحا لوكالة الطاقة الدولية. بل حتى أن وكالة الطاقة الدولية أقرت في تقريرها(توقعات الطاقة العالمية) أنه على الرغم من أن 80% من الطلب على النحاس فىسيناريوهات الحياد الصفري الأقل طموحا قد تتم تغطيتها من خلال خطط الإنتاجالمعلنة، فإن "تلبية الطلب الإضافي قد يكون أمرا صعبا للغاية". ويتجلى "التفكير السحري" الذي تتبناه وكالة الطاقة الدولية بشأن مستقبل "الحيادالصفري" في توقعاتها المتفائلة إلى حد كبير بشأن الابتكارات والتقنيات الجديدة التيتثبت جدواها تجاريا بعد. ووفقا لتقريرها الأساسي بعنوان (مرئيات تقنياتلمالطاقة)، فإن "الوصول إلى الحياد الصفري ليس ممكنا دون وجود مزيد من الابتكار". وفي مستقبل الحياد الصفري لوكالة الطاقة الدولية، فإن نحو 50% من تخفيضاتالانبعاثات في عام 2050 سوف تأتي من تقنيات لا تزال في مراحل النماذج الأولية أوالتجرييية اليوم. ومن بين قاعدة بيانات تضم أكثر من 500 تقنية منفردة للطاقةالنظيفة في مراحل مختلفة من "مستويات الاستعداد التقني"، حققت 29 تقنيةفقط (أقل من 6%) بعض القدرة التنافسية التجارية. وتعرضت التوقعات المبالغ فيها لوكالة الطاقة الدولية بشأن طاقة الرياح والطاقةالشمسية لضربة أخرى الأسبوع الماضي عندما تراجعت أسعار أسهم شركة سيمنزللطاقة، بعد أن أعلنت أن أرباحها ستعاني من خسارة كبرى نتيجة فشل العديد منتوريينات الرياح التابعة لها. وأشار خبير اقتصاد الطاقة البروفيسور جوردون هيوز،إلى أن هذا سيعني حتما أن طاقة الرياح ستصبح أكثر تكلفة. وفي تطور حديث آخر،تبنت الحكومة المحافظة الجديدة في السويد مستهدفا جديدا للطاقة الأسبوعالماضي، مشيرة إلى "عدم الاستقرار" في توليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح،وأعطت "الضوء الأخضر للمضي قدما في خطط بناء محطات نووية جديدة في بلدصوت قبل 40 عاما لصالح التخلص التدريجي من الطاقة الذرية". وأشار بيير جوسلين في شهر أبريل إلى "تقريركارلي" في ألمانيا، حيث "يرى 88% ممنشملهم الاستطلاع أن التحول إلى الطاقات الخضراء أمر لا يمكن تحقيقه!". وتعدألمانيا نموذجا لتحول الطاقة الذي يركز على تحقيق الحياد الصفري، وكان معظممواطنيها متحمسين وداعمين لتقنيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وكما يذكرناجوسلين، "فإن تلك الأيام قد ولت". وأصبحت التكاليف العالية للطاقة المتجددةوقيودها التقنية التي تتعرض لحالات من الانقطاع والمعتمدة على الظروف المناخيةفي غاية الوضوح في الأعوام الأخيرة. وحذر قادة قطاع التصنيع خلال العامينالماضيين من نزوح القطاع نحو دول مثل الصين والولايات المتحدة نتيجة للنقصالمتوقع في إمدادات الكهرباء وتصاعد أسعار الطاقة. وكالة الطاقة الدولية هي منظمة مناصرة في الوقت الحاضر من الصعب تقديم عرض شامل للنقد التحليلي الوارد في تحليل مؤسسة أبحاثسياسات الطاقة وإنصافه في مساحة هذا العمود. وهناك قائمة قصيرة للافتراضاتالأساسية لوكالة الطاقة الدولية التي لا يمكنها الصمود أمام التحليل المفصل في تقريرمؤسسة أبحاث سياسات الطاقة، وهي كما يلي: تفترض سيناريوهات الوكالة أن جميعالدول في العالم سوف تعمل فيما بينها لتحقيق الحياد الصفري في المستقبل، وهذابالرغم من أن مجموعة واسعة من الدول ليس لديها نية للتنازل عن نموهاالاقتصادي من أجل الطموحات الخضراء، كما يتعارض هذا الأمر مع الحكوماتالغربية التي تبدو جميعها مستعدة للالتزام بمستهدفات الحياد الصفري بالرغم منالتأثيرات السلبية لتلك المستهدفات على رفاهية مواطنيها. وتشكل الصين، والهند،وروسيا، وفيتنام، وإندونيسيا بعض الدول الكبرى في القارة الأوروبية الآسيوية التي -على الرغم من تحديدها لمستهدفات للطاقة المتجددة - يزداد فيها استهلاك الفحموالبترول والغاز لتلبية الطلب المتزايد كما أشار إليه ديفيد بلاكمون. وتولي وكالة الطاقة الدولية أهمية كبرى للتحسينات المتوقعة في كفاءة الطاقة. ووفقاللوكالة، فإن متوسط المعدل التاريخي للتحسينات السنوية لكثافة الطاقة (ويعنيذلك تقليل استهلاك الطاقة لكل دولار من الناتج المحلي الإجمالي المنتج) ينبي أنيتضاعف بثلاث مرات تقريبا خلال العقد المقبل. إلا أن افتراضا آخر من الوكالة بعيدالاحتمال بشكل واضح وهو انخفاض حصة جميع المواد الهيدروكربونية (البترول،والغاز، والفحم) فى الإمدادات الأولية العالمية من حوالي أربعة أخماس في عام 2021 إلى أقل من خمس واحد في عام 2050. وتشمل الافتراضات غير الواقعية الأخرى انخفاض أسعار البترول والغاز خلال الفترةالمتوقعة على الرغم من انخفاض الإنتاج، وارتفاع أسعار ثاني أكسيد الكربون لجميعالمناطق متضمنا ذلك أفقر الدول النامية. والقائمة تطول، إلا أن القارئ قد خمنمسبقا التصور المشكوك به لوكالة الطاقة الدولية المبني على تلك الافتراضات.وتنص دراسة مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة في ملخصها التنفيذي "أن الوكالة قدوضعت افتراضات ومستهدفات عديدة مشكوك بها لـ "الوصول إلى الحياد الصفريللانبعاثات" حول السياسات الحكومية، وأسعار الطاقة والكربون، والتغييراتالسلوكية، والنمو الاقتصادي، والاكتمال التقني". وقد يتفاجأ الاقتصاديون في مجال الطاقة من اعتماد وكالة الطاقة الدولية على تلكالافتراضات والمستهدفات المشكوك بها، لكن وبمجرد الاقرار بأن وكالة الطاقةالدولية لم تعد مصدرا موثوقا للدراسات التحليلية وأنها باتت مجموعة مناصرة لدعمالحركة الخضراء، تتضح الصورة. كانت المهمة الأساسية لوكالة الطاقة الدولية هي ضمان توفير إمدادات الطاقةاللازمة بتكلفة معقولة، وقد عرض السيد داروال بايجاز انقلاب الوكالة عن هذهالمهمة في مقدمته للتقرير، حيث يقول: "كان بمقدور وكالة الطاقة الدولية أن تظلمخلصة لمهمتها الأساسية، ولكن كما يشير تقرير مؤسسة أبحاث سياسات الطاقة،فإن وكالة الطاقة الدولية، خلال سعيها لتكون مشجعة للحياد الصفري، قد سمحتلنفسها بأن تكون أداة للتطرف المناخي، وأضلت صناع القرار وعرضت الاقتصادالعالمي والأمن الغربي للخطر، كل ذلك وهي تتخلى عن هدفها التي تأسست منأجله".
مشاركة :