طرابلس - يعكس تراجع المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي عن خطته البديلة التي طرحها في وقت سابق وترتكز على إحداث لجنة رفيعة المستوى للإعداد للانتخابات، والدعوة إلى تشكيل حكومة موحدة تشعّب الأزمة الليبية، فيما يبدو هذا التغيير رضوخا للقادة السياسيين الذين حذروا باتيلي من القيام بأي خطوة تزيحهم من ترتيبات إدارة الاستحقاق المقبل. وكان باتيلي قد دعا قبل أسابيع إلى تعديل قوانين الانتخابات التي أعدتها لجنة 6+6 البرلمانية المشتركة لتضمنها موادا غير قابلة للتطبيق وإحدى هذه المواد تشكيل حكومة جديدة. لكن في ظل رفض حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة تسليم السلطة إلا لحكومة معينة من برلمان منتخب يصبح من الصعب تشكيل حكومة جديدة حتى ولو توافق مجلسا النواب والدولة عليها وحكومة فتحي باشاغا نموذج على ذلك. ورغم إدراك باتيلي لهذا الواقع إلا أنه غيّر مواقفه السابقة عندما دعا إلى تشكيل حكومة جديدة، دون توضيح مدى قابليتها للتطبيق، خصوصا في ظل تباين مواقف الأطراف الليبية بشأنها. وأبرز ما تضمنته إحاطة باتيلي أمام مجلس الأمن الدولي في 22 أغسطس/آب تشديده على أن "وجود حكومة موحدة تتفق عليها الأطراف الرئيسية أمر حتمي لقيادة البلاد إلى الانتخابات". ويصب تأكيد باتيلي على حتمية وجود حكومة موحدة لإجراء الانتخابات في نفس الاستنتاج الذي توصل إليه خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة السابق بأن حكومة الدبيبة لا تستطيع الإشراف على الانتخابات، نظرا لعدم اعتراف الشرق بها. وحتى حكومة أسامة حماد، المكلفة من مجلس النواب، لا يمكنها الإشراف على الانتخابات، في ظل سيطرة حكومة الدبيبة والكتائب الداعمة لها على العاصمة طرابلس وأغلب مدن وبلدات المنطقة الغربية. وأمام استحالة إجراء أي من الحكومتين الانتخابات، فإن باتيلي، يقترح أن تتفق الأطراف الرئيسية على تشكيلها، دون أن يحدد هذه الأطراف. إلا أن المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا غرينفيلد كانت أكثر دقة في تحديد هذه الأطراف خلال كلمتها في جلسة مجلس الأمن حول تطورات الأوضاع في ليبيا. وقالت غرينفيلد إنه "يتوجب على مجلسي النواب والدولة وحكومة الوحدة الوطنية وقوات حفتر والمجلس الرئاسي توحيد صفوفهم وتقديم التنازلات اللازمة لإجراء الانتخابات". فالأطراف الخمسة الرئيسية المعنية بالتوافق على حكومة جديدة يفترض أن تتمثل في مجلسي النواب والدولة ومعهم الدبيبة وحفتر والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، معنيون بتشكيل ما أسمته المندوبة الأميركية "حكومة تصريف أعمال"، مهمتها الوحيدة قيادة البلاد نحو إجراء انتخابات نزيهة". أما بخصوص قانوني انتخابات رئيس الدولة والبرلمان، فرغم الانسداد الحاصل بشأن المشروعين اللذين توافقت عليهما لجنة 6+6 المشكلة من ممثلين عن مجلسي النواب والدولة، إلا أن باتيلي واصل دعم نفس المسار، مع التأكيد على "معالجة الثغرات القانونية وأوجه القصور الفنية" فيهما. وفي هذا الصدد، حث المبعوث الأممي "مجلسي النواب والدولة ولجنة (6+6) على استئناف عملها ووضع الصيغة النهائية للقوانين الانتخابية لجعلها قابلة للتنفيذ"، رغم أن اللجنة سبق وأن اعترضت على ملاحظاته على اعتبار أن مخرجاتها إلزامية. ولذلك أشاد المبعوث الأممي بمبادرة رئيس المجلس الرئاسي لعقد اجتماع بين رئيسي مجلسي النواب عقيلة صالح والدولة محمد تكالة لصقل مسودتي القوانين الانتخابية، في ضوء ملاحظات الأطراف الرئيسية". وتراجع باتيلي عن تشكيل "لجنة رفيعة المستوى" لتولي ملف الإعداد للانتخابات كان متوقعا بعد أن استبق كل من عقيلة صالح رئيس مجلس النواب ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي وخليفة حفتر قائد قوات الشرق الليبي إحاطته أمام مجلس الأمن الدولي بتحذيره من القيام بأي خطوة منفردة. ففي 19 أغسطس/آب اجتمع المنفي وعقيلة صالح مع حفتر بمقره في مدينة بنغازي (شرق) وأصدروا بيانا مشتركا شددوا فيه على "الملكية الليبية لأي عمل سياسي وحوار وطني" وحذروا باتيلي بـ"عدم المشاركة في أي لجان" يشكلها. وليس بإمكان المبعوث الأممي المُضي قُدما في خطته دون دعم الأطراف الثلاثة، بالإضافة إلى مجلس الدولة وحكومة الوحدة، وهو ما دفعه إلى عدم الذهاب بعيدا في خطته التي أعلنها مسبقا بتشكيلة "لجنة رفيعة المستوى". كما أن انشغال الولايات المتحدة والدول الأوروبية بالحرب في أوكرانيا وبروز أزمة انقلاب النيجر واحتمال تدخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إكواس" عسكريا فيها، ناهيك عن الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع والاشتباكات في تشاد لا يتيح لباتيلي الذهاب بعيدا بخطته التي أعلنها سابقا دون دعم دولي قوي. والاشتباكات الدامية التي اندلعت في طرابلس بين جهاز مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب واللواء 444 في 14 و15 أغسطس/آب مؤشر سلبي على الانتخابات وفق إحاطة باتيلي. ففي إحاطته، اعتبر أن هذه التطورات تقوض "الجهود الجارية لتهيئة بيئة أمنية مواتية لإجراء الانتخابات" وتأكيد على "غياب القيادة والسيطرة على الأجهزة الأمنية المتشظية في غرب ليبيا". ولم يُفصح رئيس حكومة الوحدة عن موقف واضح بشأن دعوة باتيلي لتشكيل حكومة موحدة لإجراء الانتخابات، لكنه حاول التماهي معها، إذ رحب الدبيبة في بيان على فيسبوك بإحاطة باتيلي وأعرب عن دعمه "لكل جهود التوحيد التي تحدث عنها المبعوث الأممي في كافة المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية بالتوازي مع اتجاهنا نحو تحقيق رغبة الشعب في تجديد شرعية كافة الأجسام عبر صندوق الانتخاب". ولم يُشر الدبيبة إلى استعداده للتنازل عن رئاسة الحكومة من أجل إفساح المجال لتشكيل حكومة موحدة كما يطالب بذلك خصومه، لكن بالمقابل ليس من المستبعد أن يوافق على دمج الحكومتين شرط أن يكون على رأس الحكومة الموحدة. ورفض مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة الطاهر السني، المقرب من الدبيبة، ضمنيا دعوة باتيلي لتشكيل حكومة جديدة وقال في مداخلته أمام مجلس الأمن الدولي "الوضع السياسي لا يتحمل الدخول في حوارات جديدة تطيل أمد المراحل الانتقالية". ورمى السني الكرة في ملعب مجلسي النواب والدولة قائلا "الشعب الليبي يريد من المجلسين تحمل مسؤوليتهما التاريخية وإصدار قوانين عادلة ومقبولة من كل الأطراف للوصول إلى الانتخابات." وكان لافتا أن فتحي باشاغا رئيس الحكومة المستقيل أو الموقوف من البرلمان منذ مايو/أيار 2022، عاد إلى الواجهة عندما رحب في تغريدة له بمبادرة باتيلي، حول "تشكيل حكومة جديدة ضمن خطة أممية تصل بالبلاد إلى الانتخابات". وتطرح هذه التغريدة إمكانية عودة باشاغا إلى الواجهة السياسية وتقديم نفسه مجددا كخيار لرئاسة حكومة موحدة. بينما تجاهل لقاء جمع الأحزاب وممثلي المجتمع المدني ولجنة الـ90 المنبثقة عن ملتقى الحوار الليبي الثاني مقترح باتيلي بتشكيل حكومة موحدة. وطالب المجتمعون في بيان "بتفويض المجلس الرئاسي للقيام بالترتيب القانوني لتجميد عمل مجلسي النوّاب والدولة وفي حالة عجزه فإنه يستوجب تشكيل جسم تشريعي ليتولى الإشراف على العملية". فبين أولوية تشكيل حكومة تصريف أعمال أو الاتفاق على قوانين الانتخابات أولا يفترق أطراف الأزمة الليبية وينقسم أعضاء مجلس الأمن الدائمون بشأنها، ما يصعب من مهمة باتيلي في إخراج البلاد من نفقها الطويل الذي يتفق الجميع أنه لن يكون إلا من بوابة الانتخابات.
مشاركة :