القاهرة- اتخذت الحكومة المصرية قرارا صادما للملايين من الأسر التي تتلقى دعما من الدولة بإلغاء إدراج سلعة الأرز من بطاقات التموين التي يتم تخصيصها للبسطاء، على أن يتم بيعه بالسعر الحر المتاح في السوق، بحجة أن فاتورة الدعم لكل أسرة لا تكفي لإدراج الأرز، وهي مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب. وقال وزير التموين والتجارة الداخلية علي مصيلحي إن حصة الدعم لكل مواطن في بطاقة التموين لا تتجاوز خمسين جنيها (نحو 1.5 دولار)، بالتالي لن يكون هناك مجال لاستمرار الأرز كسلعة مدعومة، على أن تصبح الأولوية للزيت والسكّر. وعكس استقبال المصريين الهادئ لقرار إلغاء الدعم الموجه للأرز، الذي لا يقل أهمية بالنسبة إليهم عن رغيف الخبز (العيش)، إلى أيّ درجة وصلت حالة اليأس عند المواطنين من إمكانية أن يكون غضبهم المعلن كفيلا بتراجع الحكومة عن سياسة فرض الأعباء. وحملت الانتقادات الحادة التي وجهتها أصوات إعلامية قريبة من السلطة مخاوف من استمرار لعب الحكومة على وتر صمت الشارع، في ظل ظرف سياسي بالغ الحساسية، وارتفاع منسوب القلق عند شريحة من المصريين خوفا من مواصلة العناد مع الناس وعدم تقدير ظروفهم المعيشية. ◙ الحكومة ترغب في كسر الحق المجتمعي المرتبط بالدعم لترفع العبء عن نفسها وتتحرّر من هذا القيد الجبري، انطلاقا من أن أموال الدعم لا يتمّ حسابها على أنها إنجاز قدمته للفقراء وهاجم الإعلامي أحمد موسى مقدم برنامج “على مسؤوليتي” بفضائية “صدى البلد”، وزير التموين، واصفا القرار بـ”غير المدروس”، وكان يمكن تأجيله إلى فترة أخرى مراعاة لظروف الناس، فلا يمكن أن يسير الرئيس عبدالفتاح السيسي في اتجاه والحكومة في طريق آخر. وقال موسى موجها حديثه لوزير التموين “الرئيس السيسي قرر تأجيل فرض زيادة على أسعار الكهرباء إلى يناير المقبل، لماذا لم يتم تأجيل قرار رفع الدعم عن الأرز، لا يوجد منزل واحد في مصر يستغني عن هذه السلعة الإستراتيجية، بأيّ منطق تتخذون قرارا مثل هذا، في ذلك التوقيت”. وتسبب القرار في صدمة للبسطاء ونسف الحالة الإيجابية التي صنعتها تصريحات الرئيس السيسي بتأكيده أن مصر قاربت على تحقيق الاكتفاء الذاتي من سلع إستراتيجية ونجحت في استصلاح ثلاثة ملايين فدان بهدف توفير السلع بأسعار مخفضة والقضاء على الغلاء. ومن شأن تحرك الحكومة نحو إلغاء أيّ دعم عن سلعة أساسية أن يفضي إلى ارتفاع أسعارها في السوق إلى مستويات قياسية، بما يجعل غالبية الأسر عاجزة عن الشراء، وهو ما يشكل عبئا سياسيا على الحكومة، لأن الأمور ستخرج من تحت سيطرتها ويصبح الناس تحت رحمة التجار. ويفترض أن سلعة الأرز متوافرة في مصر بشكل ملحوظ، ولا تزال الدولة تحقق الاكتفاء الذاتي منها سنويا وتصدر الفائض، أي لا تستوردها بالعملة الصعبة ولا توجد إشكالية في استمرارها مدعومة، على الأقل إلى حين زوال موجة الغلاء الحالية. كريم العمدة: الحكومة لديها قناعة بأن الفقراء لا يغضبون لقلة الحيلة كريم العمدة: الحكومة لديها قناعة بأن الفقراء لا يغضبون لقلة الحيلة ولم يسجل على المصريين أن تعاملوا مع رفع دعم سلعة مهمة مثل الأرز بهذا الصمت، لكن الموقف بدا مختلفا هذه المرة بعد أن خفت صوت الشريحة التي طالما وجّهت سهام غضبها ضد الحكومة وكأنها رفعت الراية البيضاء. وأصبحت طريقة إدارة الحكومة المصرية لعلاقتها مع البسطاء عصية على الفهم، فهي التي اعتادت خطب ودّهم في أغلب رسائلها، وتتحدث عن برامج للحماية الاجتماعية وتوفير حياة كريمة للفئات الفقيرة ثم تصدمهم بالانسحاب من دعم سلعة حيوية. ويرى مراقبون أن اقتراب الحكومة من سلع البسطاء يحمل مخاطر اجتماعية، لأن الرئيس السيسي نجح في تكوين قاعدة شعبية عند هذه الشريحة بخطابات إيجابية موجهة إليهم وقرارات تحد من الغلاء، لكن الحكومة قد تنسف هذه المكتسبات. وفسّر كريم العمدة الباحث في شؤون الاقتصاد السياسي جرأة الحكومة برفع الدعم عن سلعة مهمة بأنها تدرك عدم تأثر البسطاء ومتوسطي الدخل بالقدر الذي قد يجعلهم يحتجون على القرار، وهناك شواهد صمت فيها الشارع ضد قرارات أصعب. وقال العمدة لـ”العرب” إن الحكومة اختبرت صبر المصريين في مرات عدة، وهناك قناعة بأن الفقراء ليسوا دعاة ثورة ولا يغضبون لقلة الحيلة، من هنا تبدو الحكومة مطمئنة، لكن عليها الاقتناع بأن الظرف السياسي يفرض عليها قدرا من الحكمة. وتحمل رسائل الحكومة والوزراء المعنيين بالملف الاقتصادي على وجه الخصوص، وبينهم وزير التموين، أن ثمة امتعاضا من استمرار تعاطي البسطاء مع الدعم التمويني باعتباره من الحقوق التي لا يجوز الاقتراب منها. وترغب الحكومة في كسر الحق المجتمعي المرتبط بالدعم لترفع العبء عن نفسها وتتحرّر من هذا القيد الجبري، انطلاقا من أن أموال الدعم لا يتمّ حسابها على أنها إنجاز قدمته للفقراء، بل هو جزء من الإرث القديم، غير مسؤولة عن توفيره. وتبدو الحكومة محقّة في كون الدعم يساء استغلاله باعتياد الملايين من الأسر على الاتكالية بأن تنفق عليهم الدولة أو تطعمهم بسعر مناسب، غير أن الظرف السياسي لا يحتمل مزيدا من القرارات الخشنة وسط هواجس تخيّم على قطاعات من المواطنين بشأن عدم قدرتهم على سد احتياجاتهم الأساسية. ◙ من شأن تحرك الحكومة نحو إلغاء أيّ دعم عن سلعة أساسية أن يفضي إلى ارتفاع أسعارها في السوق إلى مستويات قياسية، بما يجعل غالبية الأسر عاجزة عن الشراء كما أن الرئيس السيسي يرفض السير على نهج سابقيه في أيّ ملف يستهدف حياة الفقراء، ويتعامل مع الدعم كورطة يجب التخلص منه تدريجيا، وفي التوقيت المناسب. وتحركت الحكومة لاقتصار البطاقة التموينية على شخصين فقط، وحرمان المتزوجين الجدد منها، وأبدى السيسي غضبه الشديد من إمكانية شراء 20 رغيف خبز بثمن سيجارة واحدة، واتهم الدعم مباشرة بأنه من معوقات النمو الاقتصادي. وتدافع الحكومة عن قراراتها المرتبطة بالانسحاب التدريجي من الدعم بأن الملف برمته في حاجة إلى إعادة نظر فيه، لأن الكثيرين يسيئون استغلاله ولا يذهب إلى مستحقيه، وثمة معارضون يرفضون هذه الحجج، ولا يعني وقف السرقات أن تلغي الحكومة بندا مهما من حساباتها. وتظل السلع المدعومة لمحدودي الدخل العمود الفقري الذي تقوم عليه الحياة الكريمة التي يفترض أن النظام يسعى لتوفيرها ويعتبرها من أولويات حقوق الإنسان، والتعويل على صمت المصريين تمسكا بالاستقرار يعكس انفصال الحكومة عن الشارع. ويعيش نصف المصريين تحت خط الفقر وأقصى طموحاتهم أن يمرّ يومهم بسلام، مع توفير الحد الأدنى من متطلباتهم الأساسية، ومع كل قرار بتحريك سعر سلعة ضرورية تخسر الحكومة قاعدة شعبية كانت تقف في مواجهة خصومها. وبغض النظر عن مبرّرات الحكومة وردة فعل الشارع، هناك جهات فاعلة داخل النظام لا تقدر التداعيات المحتملة عندما تتعامل مع الصمت على تحريك الأسعار أو إلغاء الدعم، على أنه قبول مدفوع بوازع وطني، ولا تدرك أن هذا الشعور قد يخفي غضبا، اللعب عليه ربما يتسبب في تأجيج الوضع عندما لا يجد البسطاء ما يخسرونه.
مشاركة :