ركزت الكثير من التحليلات الغربية في الفترة الأخيرة على التهديدات التي يتعرض لها الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط من «إيران»، بدءًا من الهجمات على السفن التجارية في المياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية، حتى أوجه الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه لوكلائها في كل من اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان وغيرها؛ فضلاً عن استخدامها الصواريخ الباليستية، وسعيها للحصول على الأسلحة النووية التي من شأنها أن تغير التوازن الاستراتيجي في المنطقة. ونظرًا إلى وقوعها مباشرة على الجانب الآخر من «إيران»، عبر الخليج العربي؛ فإن «دول مجلس التعاون الخليجي» هي الأكثر عرضة لخطر الأعمال العدوانية لطهران. ولطالما أدانت سياساتها المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، فيما التزمت بتوسيع نطاق تعاونها في مجال الدفاع والأمن مع «الولايات المتحدة»، لحمايتها من مثل هذه الأعمال العدائية. ويزداد الاهتمام بضرورة تعزيز الأمن الخليجي في مقابل التهديدات الإيرانية، بسبب حقيقة أن دول المنطقة تشهد تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، مثل تنويع اقتصاداتها الوطنية، بعيدًا عن اعتمادها على العائدات النفطية. ولكي تنجح «السعودية» –ودول الخليج الأخرى- في إحداث تحولات طويلة المدى في مستوى علاقاتها الاقتصادية مع بقية العالم؛ يجب عليها تحصين دفاعاتها الحالية، وإنشاء مستوى من الردع ضد طهران؛ لمنعها ووكلائها من تقويض هذا التواصل، والتقدم مع بقية المجتمع الدولي. وللقيام بذلك، اقترح بلال صعب من «معهد الشرق الأوسط» ثلاثة خيارات ردع رئيسية؛ لمواجهة التهديدات الحالية والمستقبلية: هي أولا «الجهود الدبلوماسية»، وثانيا «الحماية الخارجية»، وثالثا «القدرات العسكرية الأكثر فعالية». ومن المعلوم أن العلاقات «الخليجية-الإيرانية» قد شهدت في عام 2023 فترة من الهدوء، حيث وافقت السعودية وإيران على استعادة العلاقات الدبلوماسية في اتفاق توسطت فيه «الصين». ورأى «معهد الشرق الأوسط» أن المنطقة تمر «بمرحلة تحول تاريخية»، وخاصة مع وجود فرص لبناء علاقات جديدة. وفي ظل هذه الديناميكية، أشار «بلال صعب» إلى أن «المطلب الجوهري»، للرياض من التقارب هو قيام طهران ووكلائها «بوقف الهجمات» ضدها وضد حلفائها في منطقة الخليج. في حين تسعى إيران في المقابل إلى «إقامة علاقات اقتصادية، واستثمارات لتخفيف وطأة أزمة الاقتصاد المتعثر»، الذي أثار سلسلة من الاضطرابات في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، أكد «ستيفن كوك» من «مجلس العلاقات الخارجية» أنه غير مقتنع باستدامة هذا الأمر. ومنذ التوصل إلى الاتفاق، فشلت «طهران» في منع تصرفات وكلائها في الشرق الأوسط بشكل يرقى إلى المستوى المطلوب، موضحا أنها «تستفيد من الاتفاق لحماية مصالحها الإقليمية، بدلاً من العمل على تخفيف التوترات». وأضاف «بلال صعب» أن «الأمن جزء لا يتجزأ من إعادة الهيكلة الاقتصادية داخل السعودية، ومن ثمّ فإن الحاجة إلى الحفاظ على اليقظة والحذر تجاه التهديدات الإيرانية باتت «واضحة وحتمية». من جانبه، أشار «روس هاريسون» و«ألكس فاتانكا»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أنه في حين تبدو المنطقة وكأنها «تتحرك نحو الاستقرار»، على خلفية اتفاقيات دبلوماسية مهمة، وحالات تواصل بين المنافسين السابقين؛ فإنه «من السهل التشكيك في احتمالات استمرار العلاقات الباردة على المدى الطويل، وخاصة بين الخليج وإيران». واستنادًا إلى ضمان فعالية الردع ضد «إيران»، رأى «بلال صعب» أن الخيار الدبلوماسي «لن يكون كاملا إلى حد كبير»؛ بسبب «التناقض في التصورات المتعلقة بالتهديدات والأهداف المشتركة بين السعودية وإيران». وعلى الرغم من ذلك، أشار إلى أنه في الوقت الحالي «أفضل وضع للخليج» هو «الحفاظ على الهدوء»، الذي اتسم به الانفراج الأخير في العلاقات، موضحا أن متابعة الجهود الدبلوماسية ليست فقط «أداة في المتناول»، لكن «إذا تم استخدامها بشكل صحيح فيمكن أن تكون فعالة للغاية». ومع ذلك، لا تزال المشاكل قائمة في هذا الصدد. وعند النظر إلى كيفية تمكن الرئيس المصري الأسبق «أنور السادات» من استعادة السيطرة على شبه جزيرة سيناء من خلال الاستفادة من التواصل الدبلوماسي؛ لتسهيل «اتفاق الأرض مقابل السلام»، الذي تُوج بمعاهدة سلام رسمية عام 1979؛ أشار «صعب» إلى أن هذه العملية استندت على أن كلا الجانبين المصري والإسرائيلي يمثلان «خطرًا أمنيًا» على الآخر. لكن في حالة إيران ودول الخليج هناك خلل في التوازن. وفي حين أن الأخيرة وضعت إيران ضمن أكثر التهديدات الأمنية إلحاحًا؛ فإنه في المقابل لا تشعر «طهران» بالتهديد من قدرات أو نوايا دول الخليج، وتعمل على توجيه اهتمامها بدلاً من ذلك نحو الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا سيما أن الأخيرة انخرطت في «حرب ظل» طويلة الأمد معها. وبالتالي، يرى أنه في حين أن التواصل الدبلوماسي من قبل الخليج تجاه إيران «قد يجلب هدوءًا مؤقتًا»؛ فإن هذه الجهود وحدها «من غير المرجح أن تؤدي إلى تغيير البيئة الاستراتيجية»، أو «القضاء على مخاوف دول الخليج تجاه طهران»، وخاصة أن مصداقية الأخيرة مشكوك فيها، كما أن عدم التطابق بين أقوالها وأفعالها يعني ضرورة الاستمرار في اتباع سياسة الحذر. وبينما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن إيران وافقت على «وقف شحنات الأسلحة» إلى اليمن -كجزء من الاتفاق المذكور أعلاه- فقد أوضح «صعب» أنها لن تقطع علاقاتها مع الحوثيين، نظرًا إلى الأهمية الكبيرة التي يتمتعون بها، والفوائد الاستراتيجية للموقع الجغرافي لليمن بالنسبة إليها، مؤكدا أن استمرار تسليحها لهم يعني أن التهديدات الحالية لأمن الخليج ستظل «قائمة»، حتى لو تم اتباع المسار الدبلوماسي. وبناء عليه خلص إلى أن «الدبلوماسية عادة ما تكون أكثر فعالية، إذا كانت مدعومة بقدرات عسكرية قوية»، ويترتب على ذلك أن «المزيج الصحيح من سياسة استخدام العصا والجزرة يجب أن يكون ملازما لأى مفاوضات قد تجريها دولة مع أخرى». علاوة على ذلك، أيد الباحث تعزيز دول الخليج تعاونها مع الشركاء الخارجيين لزيادة قدراتها العسكرية. ومع ذلك، رأى أن حصولها على «ضمانات أمنية رسمية من حليف خارجي -الولايات المتحدة أو الصين- لمنع إيران من شن هجوم عدائي هو «احتمالات غير مؤكدة تمامًا أو كافية»، وأنه على الرغم من أن «الرياض» كانت تعتمد في السابق أمنيا على «واشنطن»، لردع أي تهديدات إيرانية، فإنه مع انسحابها من المنطقة من الصعب تخصيصها المزيد من الموارد العسكرية بالشرق الأوسط، وخاصة في الوقت الذي ينصب تركيزها على المنافسة مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومواجهة الحرب الروسية في أوروبا الشرقية. وبالنسبة إلى واشنطن، أشار إلى بعض الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها، مثل هل إذا عززت وجودها العسكري وضماناتها الأمنية لدول الخليج سترد في المقابل على استمرار انتشار الأسلحة الإيرانية، وزيادة أنشطتها العدائية، مثل هجمات الحوثيين، أو الهجمات على السفن التجارية في الخليج، فضلا عن أنه إذا تم تعزيزها للعلاقات الأمنية مع دول الخليج فمن الطبيعي أن يتوقع الشركاء الأمنيون الآخرون للولايات المتحدة في المنطقة تلبية احتياجاتهم الأمنية أيضا، والتحديث المناسب لقدراتهم؛ ما قد ينتج عنه «إرهاق» القدرات العسكرية الأمريكية. وفي حالة «الصين»، أوضح أنه «ليس لديها مصلحة في تحمل مسؤوليات أمنية كبرى في المنطقة»، وخاصة أن الاتفاق الذي ساعدت على التوسط فيه لا يتضمن إلزامها بـ«لعب دور الشرطي»، أو حتى القيام بدور «المراقب الدولي». وأشارت «كارول سيلبر»، من «معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى»، إلى أن سجل «بكين» السابق «غير مثمر»، حينما يتعلق الأمر بالمشاركة الدبلوماسية الإقليمية في الشرق الأوسط، إذ إنها غالبًا ما تعد «بالتزامات كبيرة» في الشؤون الإقليمية؛ غير أنها لا تقوم بمتابعتها، وحل القضايا والمشكلات العالقة والراسخة. ولتحقيق ردع طويل الأمد ضد التهديدات الإيرانية، رأى «صعب» أن دول الخليج يجب عليها «تطوير قدرات عسكرية أكثر فعالية» للدفاع عن نفسها. وفي حالة «السعودية»، أوضح أنها «يجب أن تعطي أولوية لمزيد من الاستقلالية والاعتماد على ذاتها»، وتطوير «قدرات عسكرية أكثر فعالية»، وهي العملية التي أقر بأنها جارية بالفعل، مؤكدا أنها في الوقت الحالي لا تنوع مصادر تسليحها فقط، لكنها أيضًا «تستثمر في العمليات، والإجراءات التي تشكل لها أسسًا دفاعية قوية». ومع إشارته إلى حتمية احتياج دول الخليج إلى «قدرات أقوى للدفاع عن النفس والردع الآن»، أكد أن تطوير برنامج الصواريخ الباليستية الخاص بالرياض يعد أحد الخيارات لتعزيز آليات الردع قصيرة المدى ضد التهديدات الإيرانية. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الوسائل والحلول «محفوفة بالمخاطر». وبالإضافة إلى امتلاك «طهران» بالفعل ترسانة عديدة من هذه الصواريخ؛ فقد حذر «صعب» من أنها «حساسة للغاية» تجاه الصواريخ الباليستية، التي تشكل تهديدًا لأمنها، نظرا إلى استخدامها على نطاق واسع من قبل العراق إبان حرب الخليج الأولى بين عامي 1980 و1988. على العموم، مع أن خيارات تعزيز آليات الردع الخليجي لها فوائدها وعيوبها، فمن الواضح أنه لا يوجد طريق واحد نحو تحسين قدرة دول الخليج على منع إيران وردعها عن تنفيذ هجمات مستقبلية ضدها. وفي حين أثبتت «الدبلوماسية» نجاحها في الحد من التوترات الإقليمية، وإعادة إيران إلى الحظيرة الدبلوماسية في الشرق الأوسط، وخاصة مع دعوة السعودية والإمارات وإيران إلى الانضمام إلى مجموعة «البريكس»، فإنه وفقا لـ«صعب» من أجل الحفاظ على السلام على المدى الطويل «لا يوجد بديل سوى تطوير قدرات عسكرية أكثر فعالية»، وخاصة أن احتمالات الحصول على دعم أمني خارجي معزز من الولايات المتحدة أو الصين «قد تكون أقل ترجيحًا».
مشاركة :