مع رحيل الدكتور عبدالعزيز الدخيّل، المدير السابق لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن يرحمه الله، يستمر تراجع الرصيد التاريخي الوطني من القيادات الكبار الذين شهدوا رحلة البناء الكبرى لبلادنا، وكانوا شهود مرحلة، وصناع قرار، وبانين للمشاريع الكبرى، والذين كانت لهم التأثيرات الإيجابية المباشرة على صنع السياسات الحكومية وعلى القرارات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. إنهم من جيل النخبة الذين شكلتهم مسيرة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها بلادنا. هؤلاء هم رصيدنا وثروتنا من الجيل (الكلاسيكي لرجال الدولة) الذين كانوا في المقدمة لقيادة معركة البناء الوطني التي نقلت بلادنا في بضعة عقود إلى وضع الدولة التي تنعم بمنجزات الوحدة الوطنية، وتعتز بحكمة قيادتها، وتتعلم من تجربة رجال الدولة الذين أسهموا في معركة البناء في الظروف الصعبة. هؤلاء كلما رحلوا يأخذون معهم تجربة حياة، وتجربة غالبًا لم تُدوّن. والسؤال الصعب الذي يجول في الخاطر هو: كيف نحدد رجال الدولة، كيف نعرفهم، وكيف نكون أمناء في تطبيق المعايير لانتقائهم، هل نعرفهم بسيماهم أم بسلوكهم وبمواقفهم. مثلاً، هل نضع من بين المعايير ما يُعرف عن الراحل الكبير (أبا يزيد) من نصيحة دائمة لزملائه في الجامعة وهي: (إركز رجلك)، وهذه تعني: حينما تناقش أو تفاوض كن صلباً مقداماً في الحق العام والمصلحة العليا للجامعة، و(رَكزت الرجل) هذه حمت الجامعة في مرحلة صعبة للتعليم العالي في المملكة. ورئاسته للجامعة هي أبرز محطات الإنجاز الصعبة في رحلته العابرة في هذه الدنيا. ومثل هذه الصفات ربما هي التي تجلعنا نتلمس أول الطريق لمعرفة من هم رجال الدولة حتى نميزهم عن رجال المرحلة؟ رجال الدولة، في تصوري الخاص، هم البناؤون للكيانات الكبيرة الممتدة الأثر والكبيرة في التأثير، الحريصون على تحقيق أهدافها الأساسية، إنهم يرونها حلمهم وشغفهم، ويستمتعون بمواجهة المصاعب والتحديات.. لأنهم عاشقون للبناء. هؤلاء أصعب التحديات التي تخيفهم هي: الأمانة والمسؤولية والكفاءة تجاه إنفاق المال العام. لماذا؟ لأن رجال الدولة ينظرون إلى المستقبل، ويحتاطون لتقلبات الزمن. وهنا تبرز الكفاءة والمسؤولية في هذا الشأن المهيب المخيف، إذ تراهم يتشددون في المحاسبة.. ويبدأون بأنفسهم. يذهب جل همهم لـ (إتمام المشاريع) التي بين أيديهم كما خُطط لها، فكل ريال يوضع في مكانه الصحيح. وبحكم النشأة يكرهون المظاهر البراقة في المباني والأثاث. تركيزهم ينصب على (بناء الإنسان) كيف يتم تمكينه، تدريبه، رفع مهاراته، فهذه عقيدة التنمية الوطنية. لا يرون الوظيفة مغنماً للتكسب وبناء المجد الشخصي، بل يرونها مغرماً ومسؤولية عظيمة لها تبعاتها الدينية والأخلاقية والوطنية. ومنذ عرفت الدكتورعبدالعزيز الدخيّل في منتصف التسعينيات الميلادية كانت تشدني هذه الصفات في القيادي الذي يكون مسؤولاً حقاً في المواقف الصعبة التي لا تقبل التنازلات والمساومات، فالحق أحق أن يُتَّبع. أول مرة قابلته كانت في منتصف التسعينيات لتسجيل (ندوة الثلاثاء) في جريدة الرياض، وكان الهدف معرفة رأي الجامعة تجاه الأصوات المطالبة حينئذ بضرورة توسع الجامعة بالذات في قبول الطالبات، وكانت مخرجات الثانوية العامة يومها عالية، وكان خيار الطلاب وذويهم الأول هو: الدراسة الجامعية, وهو نفس المرض المزمن في التعليم العام الذي لم نعرف - حتى الآن- كيف نعالجه. في هذه الندوة، التي جمع لها سبعة من عمداء الجامعة، تم طرح آراء وطنية عديدة، وكانت الندوة فرصة لمعرفة رأي قيادات الجامعة في النقد الموجه لهم. وهذه ربما كانت المرة الأولى التي يحضر صوت الجامعة قوياً، ليس في أمورها الخاصة، بل في المشهد الوطني. كان الدكتور الدخيل، يرحمه الله، متجلياً في مداخلاته التي كانت مؤشراً على موقف رجل الدولة، وأذكر من بين الآراء المهمة التي طرحها كان حول توجه مؤسسة التعليم الفني للتوسع في التعليم العالي. كان رأيه أن التدريب المهني والفني هو الأفضل لاستيعاب أغلب مخرجات التعليم العام، وليس ترحيل طلاب الثانوي للجامعات. وكان له السبق في النقد الموضوعي لهذا التوجه، وكأنه أمامي الآن وهو يقول: (وبعد يبون يفتحون كليات.. ويصيرون جامعات..). وحس رجل الدولة كان حاضراً في هذه الندوة، فقد استخدم سياسة الهجوم للدفاع عن الجامعة حيث توسع في تقديم الآراء النقدية الجريئة حول وضع التعليم رغم معرفته بمخاطر هذه المكاشفة.. ولكنه لم يتردد، إنه المبدأ: إِركز رجلك, وهكذا هم رجال الدولة حين يكلفهم ولي الأمر بالقيادة وتحمل المسؤولية. عبر التاريخ، القائد يستمتع بقيادة القادة. وبما أنه رجل الدولة فقد كانت لديه رؤية واضحة للمستقبل ويعمل على تحقيقها، وفي الجامعة كان همه استمرار (تفوق الجامعة وتميز خريجيها). أي تكريس الثقافة التنظيمية للجامعة. وهو ما يحرص عليه مدراؤها منذ عرفناهم. الراحل سعى لأمور كثيرة، وهنا نذكر الأبرز منها: أولاً، مراجعة عدد الساعات المطلوبة لتخريج الطلبة لتصبح مساوية للجامعات العالمية. وينقل عنه أحد عمداء الجامعة السابقين قوله: (لا أريد أحداً أن يحاول أن يقنعني أن الطالب في الجامعات العالمية، ولأي سبب، يحتاج لساعات أقل من طالب جامعة الفهد). ثانياً، إعداد تقرير في العام 1996 عن التعليم العالي في المملكة عام 2000. تضمن الخطوط العريضة لـ: التوسع في قبول الطلاب، كليات المجتمع، أودية التقنية، أوقاف الجامعة.. وغيرها. ثالثاً، في حال إدخال تعليم المرأة، اشترط الجودة في تعليم البنات، وأصر على قيام الجامعة بالإشراف المباشرعلى أية كلية للبنات تحمل اسم جامعة الملك فهد. رابعًا، استثمر حرص ولي الأمر على (توفير الأراضي) الكافية الضرورية للتوسع وحافظ عليها، خصوصاً أرض شاطيء الجامعة، وأرض الحرم الجامعي، مع تنفيذ منشآت جديدة. خامساً، الالتزام التام بمصلحة الجامعة العليا، وبأنظمتها وقوانينها، وتطبيقها على جميع منسوبي الجامعة من أساتذة وموظفين وطلاب، بلا تمييز أو استثناءات. سادساً، قاد إشراف الجامعة على إنشاء كليات المجتمع بحايل، والأمير سلطان بالرياض، والمجتمع بحفر الباطن (أصبحت جامعات لاحقاً). سابعاً، تنفيذ نمط جديد لامتحانات القبول في الجامعة بمسمى (رائز الأهلية المدرسي- رام)، والذي بعد تطبيقه بنجاح في قبول طلاب الجامعة لسنوات، تم تبنيه وطنياً تحت اسم (امتحان القدرات). ثامناً، التوسع في عرض الدورات الدراسية القصيرة لخدمة المجتمع، والتي كانت تلقى إقبالاً متزايداً. أخيراً، هذه إطلالة سريعة على سيرته العملية، سيرة النبلاء من الجيل العصامي الذين تصدوا لمعركة البناء الوطني وكانوا قادتها وجنودها المخلصين، وكان الراحل الدكتور عبدالعزيز الدخيّل أحد هؤلاء الذين لم ندون سيرتهم لكي تتعلم منها الأجيال المقبلة، ولكي يعرفوا التاريخ الحديث المشرف لبلادهم.
مشاركة :