الكتاب.. باني حضارات وصانع قادة المستقبل

  • 3/10/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يتخيل القراء المكتبات حدائق للأرواح، ويجدون في تصفح الكتب استراحة القلب من الكدر والضجر، ومن أجل هذا العشق يتحملون عذاب الشوق في انتظار معارض الكتب السنوية أو يسافرون إليها للظفر بكنوز المعرفة وجواهر الحكمة والكتب الثمينة والمصنفات النادرة، هؤلاء القراء أو الأقلية السعيدة حسب توصيف الكاتب الكبير أمبرتو إيكو، يتطلعون لمغامرة خيالية عبر ركوب بساط الريح للتحرر من الأوهام والأحكام المسبقة والانطلاق في الفضاءات الفسيحة، وهذه الاستقلالية تمنح صاحبها طرائق جديدة في التفكير والتأمل تمكنه من تغيير الواقع الراهن، وكلما زادت حصيلة القارئ من المعارف والخبرات الجمالية يصبح أكثر معرفة وتسامحا مع الآخرين. وليس هناك أجمل من كلمات الجاحظ في الثناء على صحبة الكتب عندما يقول: الكتاب هو الجليس الذي لا يُطريكَ، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يَملك، والصاحب الذي لا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بنانك ، وفخَّم ألفاظك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر. المكتبة صورة العالم هناك قصة طريفة توضح كيف يمكن لكتاب أن ينقذ حياة إنسان، عندما فكر الأرجنتيني أرنستو ساباتو الذي كان مقيما في باريس مطلع شبابه في الانتحار لأنه كان معدما، وقبل أن يرمي نفسه في نهر السين سرق كتابا من إحدى المكتبات، وقرر أن يقتل نفسه بعد الانتهاء من قراءة الكتاب، تصفح الكتاب على طاولة مقهى في الحي اللاتيني، وشعر بمتعة مضاعفة أثناء القراءة جعلته يتمسك بالحياة ومسراتها ويعدل عن الانسحاب مبكرا ويصمم على مواجهة الصعاب. ساباتو عاش حتى المائة عام، وأبدع في كتابة روايات رائعة مثل: النفق وملاك الظلام. وعندما يأتي الحديث عن عاشق أرجنتيني آخر للكتب ألبرتو مانجويل الذي تعرف عليه العالم بعد كتابه الشهير "تاريخ القراءة" الذي نشره قبل عقدين من الزمان، واستقر بعد ترحال طويل في قرية فرنسية بمكتبته الضخمة التي تضم 30 ألف كتاب، وتعرفنا عليه أكثر بعد مشاهدة الفيلم الوثائقي "المكتبة في الليل" من إخراج المبدع بدر الحمود، يقول مانجويل: "من خلال هذه المجلدات المكدّسة، يمكنني متابعة آثار كل ذكرياتي" أو "كل ما أعرفه عن العالم هو الآن تحت سقف بيتي. هذا الترتيب هو طريقة أخرى لمعاينة السديم. أي مكتبة هي صورة عن العالم، لكنها صورة متفائلة، أُعيد تنظيمها وتفكيرها لمنحها بنية سردية". إذن المطالعة لاتؤدي إلى تنمية الخيال والتفكير وتقوية مهارات اللغة عند القارئ فقط، وإنما تطور قدراته في التعبير عن أفكاره وشخصيته وتغيير مصيره، وتصنع قادة المستقبل كما يشير إلى ذلك مثل إنجليزي .Readers are leaders" سحر الورقي لا يمكن أن يأخذ جهاز الآيباد مكان الكتاب المطبوع، عشاق الكتب يعلمون جيدا معنى العلاقة الحميمية التي تربطهم بصفحات الكتاب وتقليبه، والبصمات التي طبعها الزمن، وكتابة الملاحظات والتعليقات على الهامش. الكتاب شاهد على نمو عقولنا، ولن توفر القراءة الرقمية كل هذه المعاني والذكريات إذا كانت الكتب مجرد ملفات حاسوبية على جهاز التخزين USB. كل قارئ يحمل في ذاكرته موسوعات ومعاجم من المعلومات لا يمكن عرضها بطريقة عملية مثل الطريقة التي يوفرها الكتاب الورقي. في قصة بورخيس (كتاب الرمل) يعرض شخص غريب بملامح لا توصف كتابا مسحورا للبيع على الرواي الذي يعيش منفردا في الطابق الرابع من شقة في شارع بلجرانو في مدينة بوينس آيرس، الكتاب مطبوع في القرن الـ 19 بعدد صفحات لامتناه، لا توجد صفحة مقدمة أو خاتمة. يحكي بورخيس عن هذا الكتاب اللغز: فتحت الكتاب عشوائيا، كان الخط غريبا علي، الصفحات البالية والبائسة في طريقة كتابتها كانت منضودة في أعمدة ثنائية. وكان النص محتشد الأسطر، ومنظوما على شكل أبيات شعرية. وفي أعلى زواية الصفحة كانت الأرقام عربية. لاحظت أن الصفحة اليسرى تحمل الرقم 40.514 والصفحة المواجهة تحمل الرقم 999. قلبت الورقة كانت مرقمة بثمانية أرقام، وتحمل رسما صغيرا مثل رسوم المعاجم – كانت ثمة مرساة بقلم حبر، كما لو أن صبيا أحمق هو الذي رسمها. وهنا قال الغريب "انظر إلى الرسم بإمعان. فلن تراه مرة آخرى" نظرت حولي وطويت الكتاب. ثم فتحته ثانية. القراء أو "الأقلية السعيدة" حسب توصيف الكاتب أمبرتو إيكو، يتطلعون لتجربة مختلفة عبر اقتناء الكتب ومطالعتها. ودون طائل بحثت عن رسم المرساة صفحة بعد صفحة. ولم أجده. بعد ذلك حصل الرواي على الكتاب المسحور عبر مقايضة مع الشخص الغريب، وقرر إخفاءه خلف كتاب ألف ليلة وليلة، ذهب إلى الفراش ولم يستطع النوم، في الرابعة صباحا أشعل المصباح، وبدأ في تقليب صفحات الكتاب المستحيل. لم يعرض كنزه على أحد خوفا عليه من السرقة، قضى أغلب وقته حبيسا مع الكتاب، وبعد دراسة غلافه المهتريء بعدسة مكبرة، استبعد احتمال أن يكون منطويا على أي حيلة من أي نوع. "جاء الصيف وذهب وأدركت أن الكتاب كان فظيعا، شعرت أن الكتاب كان موضوعا كابوسيا، أو شيئا قبيحا يتحدى الواقع. فكرت بإحراقه، لكني خشيت إحراق كتاب لامتناه قد يخنق الكوكب بدخان لاينتهي، وتذكرت أنني قرأت في مكان ما، أن خير مكان لإخفاء ورقة هي الغابة. قبل التقاعد كنت أعمل في مكتبة الأرجنتين الوطنية التي تحتوي على 900 ألف مجلد. كنت أعرف أن على يمين المدخل درجا منحنيا يؤدي إلى سرداب، حيث تحفظ الكتب والخرائط والدوريات. في يوم ما ذهبت إلى هناك ـ وأنا أتخفى عن الأنظار، ودون أن أعرف على أي ارتفاع من الباب أو أي بعد عنه، ضيعت كتاب الرمل في زحمة الرفوف التي جللها الغبار، وشعرت بشيء من الراحة. المكتبات كحدائق عامة أقدم مكتبة في تاريخ الإسلام تلك التي أسسها عبدالحكم الجمحي في مكة منتصف القرن الأول الهجري، ويذكر الدكتور يحي محمود جنيد في كتابه "كيف ورثنا الأمية" أن تلك المكتبة تعد مثالا رائعا للتوجه الثقافي، والرغبة في إشاعة العلم والمعرفة، وما أقدم عليه عندما أضاف إلى المكتبة مجموعة من الألعاب لاستقطاب الناس إليها، "كأنما هو في ذلك القرن البعيد يفكر بعقلية منظري الثقافة الغربية، في كل مكتبة عامة عوامل مساعدة ترفع من فعاليتها في الجذب حتى وسائل تسلية الأطفال، فالطفل قد يدفع والده للمجيء". وتعتبر مكتبة الحرم المكي الشريف من أقدم المكتبات في العالم، تم تأسيسها عام 488هـ، وفي عام 1262هـ، جمعت خزائن الكتب الموجودة في الحرم في مكان واحد أطلق عليه كتب خانة المجيدية نسبة للسلطان العثماني عبدالمجيد. وفي المدينة المنورة هناك مكتبات تاريخية مثل مكتبة عارف حكمت التي بناها صاحبها في عام 1270 هـ، وبعد عامين نشأت المكتبة المحمودية التي أسسها السلطان محمود الثاني عام 1272هـ، وفي الطائف أسس والي الحجاز التركي محمد رشدي الشرواني مكتبة عبد الله بن عباس قبل وفاته في عام 1291هـ، ومكتبة الحرم المدني جرى تأسيسها في عام 1352هـ، وفي عام 1355هـ تم افتتاح مكتبة الشنقيطي أول مكتبة تجارية في الرياض، وجاء إنشاء المكتبات العامة عبر مبادرات فردية بعد توحيد المملكة، مثل مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي في عنيزة 1359 هـ، ومكتبة الأمير مساعد بن عبد الرحمن في الرياض عام 1363هـ، أما أول مكتبة رسمية عامة تفتح أبوابها للقراء فهي مكتبة الرياض السعودية 1373هـ، وأسس الأهالي مكتبات عامة في شقراء 1372هـ، والحريق 1373هـ وحوطة بني تميم 1376هـ. وصدر في عام 1379 هـ قرار من مجلس الوزراء بتكليف وزارة المعارف بتأسيس ورعاية المكتبات العامة في أنحاء البلاد.

مشاركة :