هنا يجلس التاريخ متربعاً على عرشها، يحكي لنا قصصه وأساطيره عن الأجداد. هنا تستطيع أن تعيش في العصرين الجليدي والبدائي وتتنقل عبر الحديدي والبرونزي وتغوص في أعماق ما قبل الإسلام. هنا ترى بعينيك الوثائق المكتوبة على الطوب والفخار والنحاس والحجر، ترصد اختلاف العبادات والمعتقدات، وربما تستطيع أن تفك شفرات الكتابة الآرامية. هنا، على بُعد 20 كيلومتراً جنوبي مدينة الذيد، وعلى مسافة 50 كيلومتراً شرقي مدينة الشارقة، تتجول بين الجبال بمنحدراتها المتنوعة، وتستسلم لهدوء وسكينة الصحراء بكثبانها ومنخفضاتها الرملية وتطلق العنان لقدميك للسير في وديانها الصغيرة الضيقة. هنا على تلك البقعة الساحرة من الإمارة الباسمة تستطيع أن تتصفح كتاباً مليئاً بالأسرار يحمل بين أوراقه القديمة ثقافة منطقة مليحة التي تعد من أهم المواقع الأثرية، ليس في الشارقة فحسب، بل في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية. أحدث ما جادت به المنطقة كنز أثري أعلن عنه مؤخراً صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وهو يشهد الإعلان عن انطلاق مشروع مليحة للسياحة البيئية والأثرية الذي يمزج بين الماضي والحاضر ويعد للمستقبل. إلى مليحة ذهبت، وعلى خطى سموه مشيت في جولة استمرت نحو 4 ساعات لأنقل عبر الأسطر المقبلة أسراراً وأساطير كتبتها المنطقة ولا تزال تخُطّها للأجيال المقبلة. 45 دقيقة، الوقت الذي تقطعه السيارة للوصول إلى مركز مليحة للآثار، كانت كفيلة بأن تجعلني أشرد بذهني وأستسلم لطبيعة الشارقة الخلابة، وها هو طريق الذيد الذي يبدو ممتعاً لناظريه، نسمة هواء رقيقة تدخل إلى صدري من شباك النافذة بجانبي، وأسطر التاريخ تداعب مخيلتي لتعود بي إلى القرن الثالث قبل الميلاد، تلك الفترة التي ازدهرت فيها مملكة مليحة، وهي الفترة الزمنية المعروفة بالعصر الهيلينستي، التي توسعت وازدهرت فيها المملكة حتى القرن الرابع الميلادي. تاريخية وأسطورية ومهمة تلك المنطقة التي جرت فيها التنقيبات على قدم وساق منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، وكشفت عن وجود مدينة ضخمة تضم أبنية إدارية وحصوناً كبيرة، ومدافن تذكارية وحارات سكنية ومقابر دفنت فيها الجمال والخيول إلى جانب أصحابها وسُكّت عملتها المحلية فيها. تلك هي مليحة التي أهرول إليها، حين أتأمل تاريخها أكتشف أنها كانت ولا زالت مركزاً مهماً في شبه الجزيرة العربية، تحديداً في التجارة العالمية التي تربط بين أقطار حوض البحر الأبيض المتوسط ومثيلتها المطلة على المحيط الهندي وكذلك مع وادي الرافدين. راحت عيناي تنظران بشغف للطبيعة الصحراوية التي أعلنت قرب الوصول إلى منطقة مليحة. أتأمل تلك البقعة الصلبة الشامخة التي استطاع الإنسان أن يروضها بل ويجعل من رمالها الملساء ذهباً يلمع عبر الدروب. لم يكن أحد يصدق أن تلك المنطقة تخفي وراءها كثيراً من المعجزات والأساطير، وأن جبالها وكثبانها تخفي تاريخاً تشرف به الإمارة الباسمة. ها هي بوابة مركز مليحة للآثار تلوح لنا من بعيد، معلنة وصولنا إلى هدفنا المنشود. من هنا بدأت رحلة صاحب السمو حاكم الشارقة إلى المنطقة، وها هي الصحراء برياحها تحتضن المركز الذي تستطيع أن تشم بسهولة رائحة التاريخ وأنت تقف على أعتابه. محمود راشد ديماس السويدي، مدير مشروع مليحة للسياحة البيئية والأثرية، استقبلنا بترحاب ومودة، وعلى الفور كانت معنا جواهر علي النقبي، المرافقة السياحية التي لم تتركنا للحظة، واصطحبتنا في جولة تعريفية بمركز مليحة للآثار، الذي يمثل المرحلة الأولى من المشروع. تقول النقبي: المركز أنشئ ضمن مبنى صمم بطريقة مميزة يتيح للزوار التجول داخله والاطلاع على مكوناته بطريقة سهلة وممتعة وتفاعلية، إضافة إلى أنه يوفر العديد من الخدمات لزائريه من عروض وأنشطة ترفيهية وغيرها من الخدمات السياحية. أكملت مرافقتنا حديثها حين بدأنا نتجول في أروقة المركز، لنصغي جيداً إلى شرحها عبر الآثار المُكتَشفة، التي تحكي عن الحياة في مليحة منذ العصور الجليدية، فهناك تقف خريطة في مستهل المركز تحكي وتشرح موقع الإمارات ومكان منطقة مليحة فيها. بعدها تصحبنا مرافقتنا إلى قاعة مخصصة لنشاهد فيلماً وثائقياً يشرح لنا كثيراً من الحقائق التاريخية عن المنطقة التي شهدت عصوراً قديمة. لا أعرف لماذا انتابني إحساس بأنني ربما أرى بداية الحياة على الأرض أمامي، أظن أنه شعور ربما ينتاب كل من يشاهد ذلك الفيلم الذي يعود بنا إلي الوراء لنرى من خلاله كيفية معيشة الإنسان البدائي. من صالة عروض الأفلام الوثائقية نكمل جولتنا داخل أروقة المركز، لنشهد العديد من الآثار التي توثق مرور مليحة بعصور مختلفة من العصر البدائي للحديدي مروراً بالبرونزي وما قبل الإسلام. ها هي فخاريات وبضائع أخرى من وادي الرافدين وشمال الجزيرة العربية واليمن وجزيرة رودس الإغريقية، وكذلك من الإمبراطورية الرومانية وأختام من مصر. وها هي صور مجسمة لأبنية مدنية ومقابر خُصصت للبشر ومدافن خُصصت للجمال والخيول، وهي أقدم من الناحية المعمارية من المقابر التي اكتشفت في مدائن صالح وكذلك في موقع الفاو بالمملكة العربية السعودية أو البتراء في الأردن. وعن معدن الحديد الذي استعمل بكثرة في هذا العصر، حدث ولا حرج، فمن الواضح أن أهل مليحة كانوا يستخدمون العملة على الطريقة الإغريقية التي تحمل رسم رأس هرقل، واكتشفت بين أغراضهم بعض النصوص الكتابية القصيرة، وهي إما بالآرامية أو بلغة أهل جنوب الجزيرة العربية. تفاجئك أثناء مرورك على الغرف الزجاجية التي تخفي وراءها آثار الأجداد، صور مجسمة لمملكة مليحة التي اكتشفت في عام 1973، وكانت عبارة عن مدينة صغيرة تضم قصراً وحصناً ومباني سكنية ومقبرة وورشاً صناعية للعظام والمعادن. استوقفتني كثيراً تلك المدينة، وبهرني أكثر ذلك الحصان العربي الأصيل، الذي صُمم على شكل مجسم ضخم داخل المركز، واستخدم في إضاءته العبقرية الليزر، لتجسيد مُعلّقة الشاعر العبقري امرؤ القيس التي تغزّل فيها بالخيل العربي. جولة ممتعة تختمها مرافقتنا جواهر النقبي، قائلة: أظهرت المكتشفات أن مليحة بلغت من الرقي في هذه الفترة ما جعلها تتحول إلى سوق للمناطق المجاورة، بل وربما ملكت قدراً من السلطة في محيطها ما مكّنها من ضرب عملتها الخاصة التي استنسختها عن (دراخما الإسكندر المقدوني). وظلت مليحة آهلة بالسكان خلال الفترة بين 300 ق.م و300 م، ودفن أهلها أشرافهم في قبور خاصة بنوا عليها أبراجاً جنائزية، دفنوا فيها معهم أهم مقتنياتهم من الفخار والأواني الزجاجية والمستوردة والحلي، بل إن بعضهم دفن إلى جواره بعض أنعامه كالخيول والجمال، كدليل على إيمانهم بالحياة بعد الموت التي كانوا يظنون أنها استمرار لحياتهم الأولى. صخرة الجمل والأحفورية الكبرى لا يمكن للقلم أن يصف كل هذا الجمال الأسطوري الذي تتمتع به مليحة، فعن يمينك الجبال بصلابتها وشموخها، وإلى يسارك الكثبان الرملية بلونها فاقع الاصفرار ورمالها الناعمة التي تخطف العقول والأبصار. إذاً، هذا هو الجزء الثاني من مشروع مليحة البيئي والسياحي، وها هو السائق يستعد ليخوض بنا غمار جولة في قلب الكثبان الرملية من أجل الوصول إلى صخرة الجمل والصخرة الأحفورية الكبرى. إنها رحلة عليك أن تضع قلبك خلالها في ثلاجة كما يقولون، قبل أن تخوض غمارها، فبقدر المتعة في السير والجري بالسيارة فوق كثبان مليحة الصفراء، بقدر الرهبة التي يمكن أن تصيبك حين تشعر بأنك فوق أعلى الرمال بعدها تهبط بك السيارة بشكل مفاجئ إلى أسفل الكثبان. رحلة قام بها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في زيارته لمشروع مليحة. وتأمل سموه صخرة الجمل، التي جاء اسمها بسبب هيئتها التي شكلتها عوامل التعرية على هيئة جمل. وأمام الصخرة الأحفورية الكبرى، جلس سموه على الكثبان الرملية في الهواء الطلق، وقال: منذ ملايين السنوات اصطدمت الجبال ببعضها فما كان من هذا الاصطدام إلا خروج الأحفورية الكبرى، من قاع البحر لتستقر في قلب الصحراء. هكذا فسّر سموه الحفريات البحرية والصدف الكثير المنتشر في الصخرة الكبرى. رحلة لا تُنسى وسط كثبان صحراء مليحة الرملية، رحلة تنتظر كثيراً من الزائرين، خصوصاً بعد انتهاء هيئة الشارقة للاستثمار والتطويرشروق من تطويرها وإنشاء المنتجعات والفنادق بها. تخرج من صحراء مليحة لتتأكد أن الماضي يرسم دائماً خطوط وتفاصيل المستقبل في الإمارة الباسمة. بين القصر والقلعة ينقسم مشروع مليحة إلى قسمين: الأول أثري والثاني بيئي، والجولة في قلبهما تصيب بالدهشة والإبهار. نقطة انطلاقي في الجزء الأثري من ذلك المشروع الضخم الذي تقوم به وتشرف عليه هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير شروق، بدأت من عند الخطى التي خطاها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، حين زار عدداً من المواقع الأثرية في المشروع، ومن عند ضريح أم النار، كانت بداية الجولة. يقول عبد العزيز عبدالله، مرشدنا السياحي في جولتنا الخارجية: الضريح يقع ضمن مركز مليحة للآثار ويعتبر من أكثر أبنية القبور إثارة للإعجاب مقارنة بما اكتشف في مواقع الجنازات القديمة في منطقة مليحة. واستخدم موقع الدفن هذا الذي شيد في تاريخ 2300 قبل الميلاد تقريباً، لمدة تقارب 200 عام. ويعتبر هذا القبر الدائري الذي يبلغ قطره 13.85 متر من أكبر القبور خلال مرحلة (أم النار) في جميع إمارات الدولة. وتنقسم حجرة القبر إلى نصفين أحدهما شرقي والآخر غربي، حيث تم تقسيم كل جزء إلى 4 وحدات مع مداخل تصل كل حجرة بالأخرى. ويضيف: من المدفن الدائري إلى قلعة وقصر مليحة وغرف الدفن، التي صممت جميعها بطريقة مميزة، فذلك التصميم يتيح للزوار التجول داخل كل هذه الآثار والاطلاع على مكوناتها بطريقة ممتعة وتفاعلية، والمتأمل للحصن والقلعة والمزرعة المحيطة يعرف تماماً أن هذه المنطقة ربما تكون تعرضت لغزوٍ من مناطق مجاورة، إذ وجد المنقبون آثاراً لبعض أواني الفخار محترقة وبات لون التربة رمادياً. وقبل أن نختم جولتنا الأثرية في مشروع مليحة، لنبدأ جولة أخرى بيئية وسياحية، يقول مرافقنا عبد العزيز عبدالله: مشروع مليحة يتضمن تضاريس طبيعية متنوعة مثل الجبال والصحراء بالإضافة إلى احتوائه على تنوع كبير ونادر من النباتات الطبيعية، وهذا ما يتضح في الرحلة عبر الكثبان الرملية في الصحراء. نقش جنائزي نقش جنائزي يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، هو ذلك الكنز الأثري الجديد والمهم والتاريخي الذي كشف عنه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في زيارة سموه الأخيرة التي شهدت كثيراً من الأحداث، و هذا الكنز ينطوي على أهمية تاريخية كبرى للمنطقة. ويتكون هذا الكنز التاريخي، الذي اكتشفه فريق بلجيكي من متاحف الفن والتاريخ في بروكسل بالاشتراك مع فريق إدارة الآثار في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، من نقش ينتصب فوق قبر كبير يتكون من حجرة دفن تحت سطح الأرض بقياس 5.20 متر مربع ويحمل النقش المكتوب باللغتين الآرامية والعربية الجنوبية، هوية وسلالة الشخص المتوفى، وهو عمد بن جر بن علي كاهن ملك مملكة عمان. والتاريخ الذي بُني فيه القبر هو العام 90 أو 96 حسب التاريخ السلوقي، أي ما يساوي العام 222/221 أو216/215 قبل الميلاد، ما يجعله أقدم اكتشاف تاريخي حتى الآن يرد فيه اسم عُمان، ويثبت كذلك أن ملك عمان كان موجوداً في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. 250 مليون درهم حجم الاستثمارات من المتوقع أن يكون حجم الاستثمارات التي تستقطبها منطقة مليحة خلال السنوات المقبلة نحو 250 مليون درهم. ويعد مشروع مليحة للسياحة البيئة والأثرية، وفق مديره محمود راشد ديماس السويدي، نقطة ارتكاز جديدة ضمن استراتيجية هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير شروق، لتعزيز التأثير الإيجابي للمشاريع التنموية في المجتمع والاقتصاد والبيئة في الإمارة، عبر استقطاب الاستثمارات للمنطقتين الوسطى والشرقية، وتوفير فرص العمل وإبراز المقومات السياحية والتاريخية للإمارة وللدولة. ويقول السويدي: يعزز المشروع خطط تنويع المنتج السياحي في الشارقة، وسيقدم للزوار وجهة سياحية جديدة وفريدة، ما يسهم في دعم القطاع السياحي بالمزيد من المقومات التي تواكب تطلعات ومتطلبات السياح والزوار القادمين إلى الشارقة، من داخل وخارج الدولة، كما أنه يرسخ مكانة الإمارة المتقدمة في مجال السياحة البيئية وسياحة المواقع الأثرية ويسهم في تحقيق رؤية الشارقة السياحية 2021.
مشاركة :