قامت منظمة الصحة العالمية بإطلاق الاتفاقية الإطارية بشأن مكافحة التبغ في ظل تصاعد المخاوف المتعلقة بظاهرة التدخين، وكان الهدف الرئيسي من إطلاقها هو حماية المجتمعات من الانتشار الواسع لمنتجات التبغ. وللأسف لم تحقق هذه الاتفاقية النتائج المرجوة في ما يتعلق بالهدف الرئيسي الذي وجدت من أجله، وفي الوقت نفسه أظهر الواقع عدم فاعلية التدابير الواردة في برنامج السياسات الست للحدِّ من استخدام التبغ الصادر عن هذه الاتفاقية. ومنذ عام 1990 إلى اليوم بالكاد تغير عدد المدخنين حول العالم إذ أنه مازال نحو مليار شخص، ما يعني أن هذا العدد من الناس مازالوا يستهلكون التبغ في أكثر صوره ضرراً وتأثيراً على الصحة العامة. ومع مواصلة اتباع نفس التدابير والاستراتيجيات المتبعة سابقاً للسيطرة على ظاهرة التدخين لابد أن عدد المدخنين سيستمر في الازدياد. حيث لم يلق العلماء والمشرعون وواضعو السياسات آذاناً صاغية من قبل المنظمة والاتفاقية الإطارية التابعة لها بشأن النصائح التي قدموها حول فاعلية تبني مبادئ الحد من الضرر في عملية استهلاك التبغ. وبرز مفهوم الحد من الضرر في عديد من الابتكارات التي ظهرت خلال القرن الواحد والعشرين، والتي شكلت آنذاك ابتكارات وسياسات جريئة في معظم القطاعات ساهمت في حل قضايا رئيسية مثل معالجة ظاهرة ثقب الأوزون، كما أنها ستكون ضرورية جداً لمعالجة قضايا التغير المناخي في المستقبل. وبالرغم من ذلك مازالت منظمة الصحة العالمية والاتفاقية الإطارية بشأن مكافحة التبغ متعنتة في رفض هذا المفهوم فيما يتعلق بالتبغ ونتائج هذا التعنت واضحة للجميع ومتمثلة في عدم القدرة على تخفيض العدد الكبير من المدخنين. ويبدو الأمر محيراً في هذا الموقف، لأن المنظمات التابعة للأمم المتحدة بما فيها منظمة الصحة العالمية تواصل حث الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص على الابتكار في إجراءات الحد من الضرر والاستثمار بها في مجالات وقضايا أخرى مثل مكافحة الأمراض المعدية وغير المعدية والسيطرة عليها مثل مرض الإيدز، وتخفيض معدل استهلاك الملح واستخداماته، أو استبدال الدهون غير المشبعة ببدائل صحية. وتبدو جميع هذه الإجراءات منطقية لأنها تشير بشكل واضح إلى أن غياب أسلوب العمل التعاوني الذي يجمع أطرافا متعددة يشكل تحدياً كبيراً أمام الحكومات في جهودها لتحقيق أهداف التطور المستدام وتحسين حياة الأفراد. وعلى الرغم من أن بعض الحكومات تؤدي دورها بالفعل في هذا الشأن حتى أنها تقدم حوافز مالية للشركات التي تستثمر في المنتجات ذات الصلة بالحد من الضرر، إلا أن ذلك لا يكفي ولا يلبي الحاجة. إن تقييم منظمة الصحة العالمية لمنتجات التبغ الناشئة والجديدة مازال متعنتاً وغير مرتبط بالمفاهيم العلمية الحديثة والعصرية. على سبيل المثال، في عام 2016، نشر باحثون أكاديميون من المركز البريطاني لدراسات التبغ والكحول، وهو مركز امتياز للأبحاث السريرية والتعاونية في مجال الصحة العامة في المملكة المتحدة، دراسة سريرية نقدية مثيرة للاهتمام لتقرير منظمة الصحة العالمية آنذاك حول أنظمة إيصال النيكوتين الإلكترونية موضحين فيها مجموعة من المخاوف حول محتوى هذا التقرير الذي يبدو بنظر هؤلاء الباحثين تقريراً لم يقدم الحقائق والأدلة العلمية المثبتة حول السجائر الإلكترونية بشكل عادل. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات موجودة ضمن أهداف الاتفاقية الإطارية بشأن مكافحة التبغ إلا أنها تواصل الإصرار على رفض استراتيجيات الحد من الضرر الرامية إلى تحسين مستويات الصحة العامة، علاوة على ذلك فإن النهج القائم على الحد من الضرر والفوائد الناتجة عن تخفيض مستوى سمية المنتجات، تم التعرف عليها مسبقاً مرات عديدة من قبل الهيئات الاستشارية الخاصة بمنظمة الصحة العالمية والتي تخصص جهودها نحو قضية مكافحة التبغ وكان ذلك في مراحل أتت قبل تبني الاتفاقية وبعده. حتى إن أحدث المنشورات الشاملة لمنظمة الصحة العالمية حول تنظيم منتجات التبغ تنص على أنه «يمكن النظر إلى نهج سياسات تحفيزية للمدخنين تحثهم على تبني أشكالاً أقل خطورة في استهلاك النيكوتين». وفي شهر مايو من العام الحالي 2023 صادف مرور 20 عاماً على تبني الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية بشأن مكافحة التبغ، وهو أيضاً ذكرى مرور 20 عاماً من تجاهل الاتفاقية لمبدأ الحد من الضرر المقترن بالتضييق على منتجات الحد من أضرار التبغ وخذلان أكثر من مليار مدخن حول العالم. وفي الحقيقة، أدى ذلك إلى انتقال الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية بشأن مكافحة التبغ إلى وضع باتت فيه غير مناسبة لتأدية المهام المنوطة بها، خصوصاً عندما نتكلم عن الدول ذات الدخل المنخفض. حيث إن منظمة الصحة العالمية والاتفاقية التابعة لها لا يمتلكان خلفية واضحة مدعومة بأحدث الأدلة فيما يتعلق بدور أجهزة إيصال النيكوتين المبتكرة في مساعدة المستهلكين على التحول من السجائر إلى خيارات أقل ضرر بكثير. ويؤسفنا القول إن الاتفاقية مازالت إلى اليوم تقدم المكافآت للإجراءات الفاشلة، إذا إنها غالباً ما تدعي النجاح في جهودها من أجل أن تثبت ذلك أمام الجمهور، وذلك من خلال تسليط الضوء على الانخفاض في حجم سوق التجارة المشروعة للسجائر في عدة أسواق مثل سنغافورة وجورجيا وتركيا وقرغيزستان وإثيوبيا وجنوب إفريقيا وتايلاند والأردن ومصر. لكن الواقع هو عكس ذلك تماماً عندما نتحدث عن تخفيض معدلات التدخين، إذ تشهد هذه الدول زيادة في حجم سوق تجارة السجائر غير المشروعة ما يعيد معدلات التدخين إلى مستواها الأساسي ويعوض الانخفاض الحاصل في سوق التجارة المشروعة الذي أشارت إليه الاتفاقية. وباختصار فإن الاقتراحات التنظيمية المفرطة التي تقدمها الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية بشأن مكافحة التبغ تؤدي إلى آثار سلبية، وكمثال على ذلك تقوم دول مثل بنما حالياً بجهود كبيرة للتعامل مع تأثيرات هذه السياسات على التجارة غير المشروعة والأمن الدولي. إن مواصلة رفض الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية بشأن مكافحة التبغ للمنتجات الأقل ضرراً على الرغم من الأدلة العلمية التي تثبت فاعليتها، ما هو إلا دليل على أن فكرة تحسين حياة المدخنين ليس في صلب مناقشتها في هذا الشأن. ولا بد للحكومات أن تتولى زمام القيادة من أجل تحسين حياة مواطنيها، إذ يحتاج المواطنون في هذه الظروف إلى أن تقوم حكوماتهم بكسر الجمود الحاصل حالياً حول استراتيجيات الحد من ضرر التبغ. وفي الوقت الذي نرى فيه أن المقياس الرئيسي لنجاح جهود تخفيض معدلات التدخين يجب أن يرتكز على النجاح في تخفيض أعداد الوفيات والإصابة بالأمراض المتعلقة بالتدخين، فإن الاتفاقية تقيس النجاح في جهودها فقط اعتماداً على عدد الدول التي طبقت بالفعل إجراءاتها وتدابيرها، الأمر الذي لا يعد فعالاً بما يكفي. وفي الختام، نعتقد بأن النصائح الخاطئة هي السبب الرئيسي في منع حكومات الدول من تبني بدائل أفضل للتدخين، على الرغم من أن قادة الفكر وصانعي السياسات في تلك الدول يدركون يوماً تلو الآخر أنه لا بد من تبني استراتيجيات أفضل للمضي قدماً في تحسين الصحة العامة. إن دمج استراتيجيات الحد من أضرار التبغ في السياسات الوطنية لمكافحة التبغ يحمي الصحة العامة من خلال تزويد المدخنين ببديل يقلل من خطر الإصابة بالأمراض والوفاة المرتبطة بالتبغ، ما يسهم بشكل كبير في انخفاض أعداد المدخنين ويسرع في التخلص من تدخين السجائر كليًّا.
مشاركة :