يفرض الإسلام على المسلمين جميعاً بكل صراحة ووضوح الاعتراف بكل الأديان السماوية السابقة، فلا يجوز للمسلم بناء على موقف دينه، الذي يسجل أسمى مواقف التسامح والاعتراف بالآخر، أن يفرق بين أنبياء الله: موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وحتى يتحقق الوفاق والتعاون بين أتباع هذه الأديان السماوية، ويختفي التعصب الديني بجميع صوره وأشكاله يطلب القرآن الكريم من الجميع الابتعاد عن كل ما يجلب الشقاق والنزاع، وضرورة التركيز على التنافس المثمر في مجال الخيرات وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ. هذا الموقف الإسلامي المتحضر من شأنه أن يوفر المناخ الملائم للتعاون بين الأمة الإسلامية وشعوب العالم المختلفة، وهو تعاون واجب، يوفر فرص التعايش السلمي والتعامل باحترام مع الأديان السماوية ووقف كل صور التعصب والإسفاف والإساءة للأديان ولأنبياء الله ورسله، خاصة من جانب غير المسلمين الذين يسيئون للإسلام ورسول الإسلام العظيم، كما رأينا في العديد من الدول الغربية التي تدين بالمسيحية ولا تزال تمارس إسفافاً مرفوضاً ضد القرآن العظيم ورسول الإسلام الأعظم. وإذا كان الموقف الإسلامي بالنسبة لأتباع الديانات السماوية واضحاً بما فيه الكفاية فإن الموقف الإسلامي بالنسبة لأتباع الديانات غير السماوية لا يقل وضوحاً، فالقرآن الكريم يحض على التضامن مع أتباع كل الأديان ما دام هؤلاء لا يعتدون على المسلمين، ولا يتآمرون ضدهم، والقاعدة القرآنية في ذلك قول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ويتضح من هذه القاعدة القرآنية أن أمر هذه العلاقة مع غير المسلمين بصفة عامة- ما داموا لم يعتدوا على المسلمين - ليست علاقة باردة أو علاقة حيادية على نحو سلبي، وإنما هي علاقة إيجابية تقوم على أصلين أساسيين هما البر والعدل.. والبر مفهوم جامع لكل قيم الخير، والعدل ضرورة حياتية لا يستطيع الإنسان أن يحيا حياة حقيقية من دونها. وعندما يدعو الإسلام إلى العدل فإنه بذلك يدعو في الوقت نفسه إلى حرية الإنسان وكرامته وتأكيد حقوقه الإنسانية العامة. وهناك حقيقة مؤكدة أجمع عليها مؤرخو الأديان على اختلاف مشاربهم وهي أنه ليست هناك جماعة إنسانية ولا أمة كبيرة ظهرت في هذا الوجود وعاشت ثم مضت من دون أن تفكر في مبدأ الإنسان ومصيره وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه وبمعنى آخر: من دون أن تكون لها ديانة، فالنزعة الدينية أصيلة في نفس الإنسان وليست دخيلة عليه. فالدين هو المكون الرئيسي لكل الحضارات التي صنعها الإنسان على مدى تاريخ البشرية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى عمق العقيدة الدينية وتغلغلها في النفس الإنسانية، ولا يزال الدين يؤدي دوراً رئيسياً في حياة الأفراد والشعوب على الرغم من كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم مادي باهر، ولا يزال الإنسان في عصرنا الحاضر في حاجة ماسة إلى هداية الدين وصفاء الروح وعمق اليقين لينعم بالسكينة ويتخفف من حدة اندفاعه المادي وغلبة الأنانية على حياته وسلوكه. ومن هنا فإن الأديان تلعب دوراً مهماً في حياة الأمم والشعوب في عصرنا الحاضر، وإذا توحدت جهود أتباعها وتعاونوا فيما بينهم وتضامنوا في سبيل التغلب على ما يواجه البشرية من مشكلات عديدة، فإنهم يمكن أن يقدموا للبشرية الكثير مما يساعدها على الخروج من أزماتها وإنقاذ العالم مما يحيط به من أخطار وشرور لا يعلم مداها إلا الله. والإسلام في سعيه المتواصل من أجل خير الإنسان وسعادته يقف موقفاً متسامحاً إلى أبعد الحدود من الديانات السماوية السابقة، ويبدي استعداده للتعاون والتضامن مع أتباعها من أجل سلام العالم، والإسلام يعترف بكل أنبياء الله ورسله الذين حملوا رسالته إلى الناس على مر العصور - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - وهذا يعني أن الإسلام يؤمن بوحدة الدين، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. ومن ذلك كله يتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام يدعم كل الجهود الهادفة إلى تحقيق التضامن بين الأديان وإلى تحقيق التقارب بينها، والتعاون معها في كل ما من شأنه أن يعود على البشرية كلها بالخير، ويحقق للعالم كله الأمن والاستقرار والسلام الذي هو سلامنا جميعاً. والتضامن بين الأديان لا ينفصل عن التضامن بين الشعوب والتقارب فيما بينها من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وأهمها التعايش السلمي وهو ما ينبغي أن تسعى إليه كل الشعوب الآن. د. محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر
مشاركة :