من الصعب تلخيص فكر أريك فروم لما يتميز به من الغنى والثراء المعرفي. فهو يلامس مجالات عديدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتصوف والفلسفة. كما يتميز فكره أيضاً بنسق مفاهيمي متشعب ومترابط مثل مفاهيم الاغتراب والوجود والتملك والإنسانية الجديدة وغيرها. وأريك فروم (1900-1980) فيلسوف ومحلل سياسي ألماني من أصول يهودية، وقد هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية سنة 1934 بعد صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا. وانتمى في بداية الأمر إلى مدرسة فرانكفورت النقدية، واعتبر واحداً من أعضائها، لكنه سرعان ما انفصل عنها بسبب نزعتها التشاؤمية. وخلال مسيرته الفكرية الحافلة قدم فروم جملة من المؤلفات المتنوعة من أبرزها: الهروب من الحرية 1941، والمجتمع العاقل 1955، وأزمة التحليل النفسي 1970. تأثر أريك فروم في بداياته بالتحليل النفسي الفرويدي، ولكنه سرعان ما بدأ في شق طريقه الخاص، خصوصاً بعد رفضه لفكرة التأثير الحاسم للدوافع الغرائزية على الفرد، واعتبر فيما بعد أنه ينتمي إلى الفرويديين الجدد أمثال أدلر ويونغ وكارين هورني وغيرهم. وهكذا حاول بناء تحليل نفسي مغاير، يعطي الأهمية الأكبر للعوامل الثقافية والاجتماعية في فهم سلوك الإنسان. فما هي إذن معالم هذه النظرة التحليلية المغايرة التي قدمها إريك فروم عن الإنسان؟ وهل استطاعت الرأسمالية بما تقدمه اليوم من وفرة استهلاكية، تحقيق السعادة التي نطمح إليها، أم أنها بالعكس من ذلك قد تعمل على إفراغ الإنسان من كيانه الروحي، ودفعه إلى الاغتراب؟ التحليل النفسي الإنساني كما سبقت الإشارة، فقد انتمى أريك فروم في بداياته إلى المدرسة الفرويدية، وخضع لتدريبات في معهد برلين للتحليل النفسي، كي يصبح محللاً نفسياً محترفاً. ولكنه سرعان ما بدأ في الابتعاد عن هذه المدرسة، وذلك بسبب تأكيده على ضرورة علاج الاختلالات الاجتماعية والثقافية، بدل التركيز على الغرائز والدوافع الحيوية. ويشير فروم إلى أن التحليل النفسي قد عرف في بداية نشأته، نجاحاً باهراً بسبب ما أسماه بـ«عصر القلق» (أزمة التحليل النفسي ص 8)، حيث إن المدنية المعاصرة بفعل تراجع حضور الدين في الغرب وإخفاقات السياسة هناك أحياناً، عملت على ترسيخ مظاهر العزلة والاضطرابات النفسية. غير أن هذا النجاح تراجع بعد الحرب العالمية الثانية، إذ لم تستطع النظرية الفرويدية تطوير ذاتها، والإجابة على التغيرات الاجتماعية التي حدثت. إن قوة الفرويدية تكمن في مفهوم اللاشعور، الذي مكننا من فهم أعمق لطبيعة الذات البشرية. غير أن اقتصار اللاوعي على الغرائز الجنسية، حد من قوة هذه الأطروحة. وبإهماله للعوامل الاجتماعية وتأثيرها في تكوين الشخصية، أصبح فرويد الرجل الذي يقبل المجتمع المعاصر، كما لو أنه آخر ما يمكن للبشرية أن تبلغه من تطور. وعلى العكس من ذلك يؤكد فروم أنه: «لم تعد في منتصف القرن العشرين، المشكلة في الكبت، لأن الغرائز مع تطور مجتمع الاستهلاك باتت في حد ذاتها بضاعة استهلاكية» (أزمة التحليل النفسي ص 31)، وهكذا فإن ما يجب على التحليل النفسي التركيز عليه، ليس الكبت، بل الاغتراب وضياع الحرية، وفقدان الحافز على المحبة والحياة، وهذا هو ما يسميه فروم بالتحليل النفسي الإنساني. الوجود بدل التملك هناك الوجود «to be» وهو الفعل الذي يعبر الإنسان من خلاله عن كينونته وحضوره في هذا العالم. وهناك في المقابل فعل آخر وهو فعل التملك «to have» حيث يحصل الإنسان على مجموعة من البضائع التي يستهلكها ويلبي حاجياته المباشرة من خلالها. إننا نعلم جميعاً أن الإنسان يمكنه أن يكون موجوداً دون أن يمتلك هذا الشيء أو ذاك. غير أن نمط الحياة المعاصرة يقوم على منطق آخر، وهو أنه لكي نوجد لابد أن نمتلك. وهذا هو ما يكشف عنه فروم من خلال تمييزه بين هذين المفهومين: الكينونة والتملك. فقيمة الإنسان، وفق هذا التصور، تقاس بعدد البضائع التي يحيط نفسه بها. يقول: «إن الإنسان المعاصر في المجتمع السيبراني، محوط بكمية من الأشياء بعدد النجوم في السماء»! (فن الوجود ص 151). إن هدف الحياة هو بلوغ الحرية، والتحرر لا يقتصر فقط على مناهضة قوى السيطرة الخارجية كالاستعمار مثلاً. فرغم أهمية هذه الحرية الخارجية، إلا أن فروم يركز على ما يسميه بـ«التحرر الكلي» (فن الوجود ص 26)، ويقصد به تحقيق التحرر على المستويين الداخلي والخارجي. إننا نتعامل اليوم مع وفرة هائلة من الأشياء، مقارنة مع المجتمعات التقليدية، بل أكثر من ذلك أصبح التملك أحياناً وكأنه هدف الحياة وجوهر الإنسان. لقد ابتعدت ثقافة المجتمعات المعاصرة، عن تعاليم المعلمين الكبار. فالصوفية مثلاً كانت تؤكد على الزهد، في حين أصبح الإنسان الناجح اليوم في الثقافة الغربية هو الذي يمتلك أكبر قدر من الأشياء. وهكذا لم يعد النجاح مرتبطاً بالتحقق الداخلي للذات، أي بالكينونة الإنسانية، بل بالمظاهر الخارجية، بالأشياء والشهرة، والقوة والنفوذ. أي بكل ما هو قابل للملاحظة والقياس. ثم إن هذا الإنسان الذي يتوهم أنه موجود ومسيطر، بفضل الأشياء التي يمتلكها ويحيط نفسه بها، لا يعبر في نظر فروم عن قوّته وسيطرته، بل بالعكس تجسد هذه الظاهرة ضعفه وهشاشته، لأن كل هذه الأشياء صنعتها الآلات والمعامل، وبالتالي هي لا تعبر عن كيانه وعن مجهوده الشخصي. الاغتراب ومتاهة الحياة المعاصرة إن النتيجة العامة لتفضيل التملك على الوجود هي الاغتراب. هذا المفهوم الذي يحيل على ضياع الإنسان وانجرافه في الوجود الزائف، الذي يوفره له المجتمع المعاصر. فالاغتراب كما يحدد فروم، معناه أن الإنسان قد خلَق عالماً مليئاً بالأشياء، ولكنه غير قادر على التعرف على نفسه من خلالها، لأن كل هذه الاشياء تتجاوزه وتدوس عليه. ويقدم لنا الفيلسوف عدداً من الأمثلة التي تشخص حالة القلق والتشتت، التي يعيشها الإنسان الذي يعاني من الاغتراب. ففي عالم الصناعة مثلاً يصبح الإنسان مجرد ذرة تائهة في سلسلة العمل، التي تؤدى بحركات ميكانيكية، كتركيب عجلة أو إدارة برغي. وفي ظاهرة البيروقراطية، حيث يحضر الطابع اللاشخصي، وتفرض الإدارة سلطتها اللاإنسانية أحياناً. أما أبلغ مثال يقدمه فروم فهو اختراع القنبلة النيوترونية، التي يمكن أن تقضي على كل ما هو حي، والإبقاء فقط على الأشياء. (كينونة الإنسان ص 30). البديل الإنساني ما هو المجتمع السوي الذي يطمح فروم لبنائه؟ من المؤكد أن القوة النقدية التي يشرح بها الفيلسوف بنية المجتمعات المعاصرة، لا تنطوي بتاتاً على رؤية عدمية أو نظرة تشاؤمية تجاه المستقبل. كما أنه في الآن ذاته أيضاً بعيد كل البعد التفاؤلية الساذجة. ففي كتابه «المجتمع السوي» يؤكد فروم أنه لا بد من تجاوز هذا النكوص الذي يعيشه الإنسان في المجتمعات المعاصرة، ليس عن طريق استنهاض الرغبات الغريزية كما اعتقد فرويد، بل عن طريق الوصول إلى حل لمشكلة الوجود الإنساني لديه. وهناك حاجات كلية أساسية قامت الحضارة المعاصرة بتشويهها لا بد من الحفاظ عليها، مثل الحاجة إلى التواصل بدل العزلة والنرجسية. والحاجة إلى المحبة التي تدفع الإنسان إلى أن يعيش تجربة المشاركة والتفتح الداخلي للذات. ثم إن تجاوز الحدود الضيقة للذات والمحبة، يدفعنا كذلك إلى مواجهة الحياة بالقوة الإبداعية، عوض السلوك السلبي أحياناً الذي نعيشه حالياً.
مشاركة :