خطاب الوهم.. والتيه العربي - ياسر حجازي

  • 3/12/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

1 أوّلُ أملٍ في الخروج من الوهمِ رؤيتُهُ، ثُمّ الاعتراف به وبحدوده أو انفلاته وتوسّعاته ثمّ العمل بجديّة للخروج منه، دون الرؤية والاعتراف والعمل يبقى أمل الخروج ميؤوساً منه، ويبقى الوهمُ سيّدَ هذا التيه العربي، أمّا الأفراد الذين أبصروا أوهامهم واعترفوا بها حتّى تمكّنوا من الخروج من الوهم - من أوهامهم وجدوا أنفسهم في صراع مرير لا ينتهي مع خطاب الوهم المحيط، في مجتمعات عربيّة طغيانها الأوهام، ذلك أنّ غلبة الوهم طاغية في خطابٍ عمومي يجعل الفرد المتحرّر من أوهامه منبوذاً أو في مواجهة لا يقوى عليها أيّ فرد، وإن ملك من الجرأة ما يؤهّله الاعتراف بخروجه من الوهم فذلك يقوده إلى محرقةٍ نفسيّة وقد لا تكون المحرقة الجسديّة بعيدة عنه أيضاً في مجتمعات لا تقف عند قانون سلامة النفس وحريّة معتقداته، وتبقى الهجرة إلى العلم والحريّة هاجساً يقضّ مضجع العاجز وتحفّز القادر. * شيءٌ من هذا في هجرة العقول المتحرّرة علميّاً إلى بلاد الغرب. * شيءٌ من هذا يفسّر تنامي الهجرات من الشرق إلى الغرب، من الوهم إلى العلم. 2 يكادُ من التلقين وحشر المحفوظات في عقله أن ينفجر؛ هذا الذي يحفظ من الكتب الصفراء مخزنَ منقولات، ولكن: هل يفهم المخزن ما يخزنه؟ هل يفهم المخزن وجود مخازن أخرى ومحفوظات أخرى غير التي يحملها؟ وأنت أيها العقل ماذا سوف تفعل حينما يمتلئ المخزن بما يعثّر خطواتك ويسجنك في أوهامك؟ كيف بالإمكان أن يضيف قليلاً من المعقولات العلميّة الجديدة؟ كيف تفلتُ منك وأنت السجّان والسجن والمسجون؟ * دمّر عقولنا الحفظ. * حفظها عن عملها. 3 في صغري، كان أخي المهندس شريف - وكان مسؤولاً عن تدريسنا - نحن إخوته الصغار - الجبر والحساب والهندسة ثمّ لاحقاً الرياضيات - يردِّد على مسمعٍ منّي إن سمعني أتلو شعراً أو أتندّر بقصص من التراث بينما يتوجّب عليّ إتمام واجب أو التحضير لامتحان علمي لم استعدّ له: «العقل مثل البالون، احذر أن تنفخه بمعلومات خاطئة أو غير مفيدة وإلا امتلأ دون فائدة وتعطّل عن عمله، وما تمكنت من إدخال أي معلومات جديدة قبل أن ينفجر»؛ كان التحذيرُ دعابةً لا تخلو من الجديّة والصوابيّة من وجوه كثيرة، وإن أقرّ العلم قدرات لا - نهائيّة للدماغ، فكذلك أقرّ بأنّ الدماغ يبقى مقيّداً بما يدلق فيه في سنواته الأولى من لغة وقرارات حادّة تفاضليّة في مفاهيم الخير والشر والصواب والخطأ والحق والباطل ومعلومات وعادات وقيود ومخاوف ومشاعر، يبقى المرء أسيرها إلاّ من فلت منها في رحلة الخروج من الوهم الأوّل - وهي رحلة نادرة السلامة وغير مضمونة العواقب في مجتمعات يغلبها خطاب الوهم. 4 العقل العربي اليوم بالون منتفخ مملوء بتفاضليات كثيرة في كلّ شؤونه: تجعله يضع تعريفاً للصواب والخطأ بناءً على عاداته وتقاليده وليس استناداً لعلمٍ أو تجربة، أو ليس بناءً على عادات المكان الذي يكون فيه صاحب هذا العقل الموهوم بعاداته ومفاهيمه الحديّة - المتطرّفة، ولذلك تجده يحمل عاداته ومفاهيمه ويقدّسها ويتخبّط في تعاملاته مع الآخرين حتى حينما يزورهم في أماكنهم ويكون بين مجتمعاتهم. هذا العقل الغائب منتفخ بمعلومات غير قابلة للنقد - مسلّمات ومحصّن في سبيل الدفاع عن رسوخها، وهو محدود بطريقة تفكير لا تفكير فيها، إنّما حالة تذكّر واستحضار لما هو مخزون ومحشور في دماغه، أكثرها تعمل ضد العقل وتسعى إلى تحييده عن عمله في سياقات ربط الأحداث واستنتاج الأمور بالاستناد إلى عمل العقل وليس بالاستناد إلى معلوم مسبق غير مجرب، لكنه محشور في العقل على أنه صحيح ونهائي. هل يجوز أن نتحدّث عن جمع بصيغة المفرد: أقصد «غياب العقل العربي»؟ هل لهذا الكائن الأسطوري عقل إلى درجة متشابهة يجعلك تتحدث عنه بالتعميم والإطلاق؟ أغياب الحريّة يفقد الاختلاف ويمحو الملامح الفارقة بين إنسان وآخر!! أغياب الحريّة مسؤول عن صناعة هذا التشابه العميم! 5 لم ترد في المتن القرآني كلمة «عقل» بل، وردت مشتقاتها «يعقلون، عقلوه..»، والتعبير الأكثر ترجيحاً لدلالة الدماغ في المتن القرآني هو مصطلح «القلب» كما في: «فتكون لهم قلوب يعقلون بها»، (والصدر رأس الشيء وأشرفه وأعلاه، وليس القفص الرئوي، هذه الدلالات التاريخيّة للفظة، ونستحضر لفهم السياق التاريخ الدلالي فقط)، وبالتالي عدم وجود اللفظة التي نستخدمها الآن: (الدماغ، العقل) لا يعني غياب الدلالة، فدلالة العقل في الاستخدام المعاصر موجودة في لفظة «قلب» - من تقليب الأمور بين التفكّر في فكفكة المسائل المنظورة وبين إعادة عقلها - ربطها، فكلا الوظيفتين التفكيك - الفكر والعقل - الربط جزء أساس من عمل الدماغ؛ وفي «مقاييس اللغة: للقلب «أصلان صحيحان أحدهما يدلّ: على خالص شيءٍ وشريفه، والآخر على ردّ شيءٍ من جهةٍ إلى جهة»، وكلا الدلالتين هما لدماغ الإنسان وليس لمضخّة الدم، والعقل في المقاييس: «حُبسة في الشيء» فانظر كيف تطوّرات دلالات اللفظتين لفقدان الواقع بما يتماثل معهما. فما حدث في السياق التاريخي لتراكم الأحداث، كان طمساً لدلالات «القلب» عند الأمويين والعباسيين بتحويل اللفظ من «الخالص الشريف مقلّب الأمور وميزانها وعاقلها، الآمر الناهي» إلى دلالة «مضخّة الدم في الجسد»، فتوارت وظيفته في التفكّر والتدبّر والتأمل وطمست، وحُصرتْ في الحفظ والتلقين وترديد ما يُلقى به... واستبدلت بكلمة العقل المتداخلة مع دلالات أخرى تخدم تغييب القلب وربطه للأمور؛ وعلى هذا التراكم التاريخيّ الواقعي ثمّ اللغوي «فاللغة انعكاس للواقع» ورث العربيّ اليوم وعياً موهوماً مجبولاً على أنّ النقل والحفظ جزءٌ أصيلٌ من عمل الدماغ وليس الشكّ والفكّ والعقل والربط، ورث العربيّ وهماً أنّ مسؤولية الدماغ حماية المسلّمات وليس تقليبها تفكّراً وعقلاً. 6 غياب العقل قاضياً لغياب الحياة موضوعاً وذاتاً، ونحن بهذ الغياب لا نرى أحداً؛ «نحن أعظم أمة»، «هذا العالم الغربي وغيره، بل العالم كلّه يتآمر علينا»، «هناك مخطّط كبير ضدّنا»، «مخطّط تآمري ضدّ العرب»، «مخطّط تآمري ضدّ الإسلام»، «مخطّط مسيحي - يهودي ضدّ عاداتنا وتقاليدنا»، «ضدّ ما نأكل وما نشرب»، «ضدّ صحّتنا ونسلنا»، «ضدّ أمجادنا»، «ضدّ تاريخنا وماضينا التليد» إلى آخر سلسلة الأوهام والمخاوف والفوبيات التي لا تُبرّر إذا كان حالنا في صدارة هذا العالم، فكيف ونحن من توابعه الغائبين ونعيش على إنتاجاته وعلومه في استهلاك شرهٍ لا يحمل غيرة أو إحساساً بضرورة المنافسة في العمل والعلم!؛ نسأل ونبدو صادقين أو مخدرين أو نتظاهر بذلك: «لماذا أعداؤنا يكيلون حقوقنا بمكيالين؟» «كيف الذي ذاقَ الهولوكوست يُذيق شعباً آخر لم يؤذه؟» نسألُ والسؤالُ مشروعٌ، ومشروعيّته تقتضي أنّنا نختلف عنهم، أنّنا أحرارٌ في رؤيتنا وتصوّراتنا ونرى الآخرين أحراراً دون تصنيفات ثقافيّة، هذا ما يقتضيه: «لا تنهِ عن خلق وتأتي بمثله..» في أبسط صوره وعدالته، ولذلك فإنّ مشروعيّة هكذا أسئلة تستلزم أنّنا لا نمارس ما يمارسه أعداؤنا في حقّنا؟ فأي ادّعاء موهوم هذا!! كيف ونحن نُجرع بعضنا ظلم بعض، ونُجرّع آخرين ظلماً لا يطاق؟ ماذا فعلنا «بالأكراد»؟ هل سبق على مدار مئة سنة أن ناصرنا شعباً قوامه أكثر من ثلاثين مليوناً ولا يملك دولة على هذه الأرض بحريّته وسيادته؟ ماذا قدّمنا لأفريقيا سوى تصدير الدُّعاة الدينيّين، بينما المجاعات وخطف الإنسان والعبودية وسرقة خيرات الشعوب وتركهم جوعى على خريطة الجارة الأفريقيّة، والتي نجتمع بقادتها لمناصرة قضايانا؟ كأنّ العالم جميعه معافى ونحن المبتلون - المبتلين! * زوّدني بكتاب عربيّ يتحدّث عن أتباع الطوائف اليهوديّة بخير ولا يخلط بين عدائه للصهيونيّة الإسرائيليّة الاستعماريّة وبين الديانة؟! * أين مآسي العرب الصاخبون من مآسي شعوب أخرى، لا يتحمّل العربي عُشرها؟ * لماذا هذه الأوهام وكيف الخروج منها فرادى وجماعات؟ هل من رؤية واضحة في هذا التيه العربيّ؟ مقالات أخرى للكاتب العقل الغائب في الوهم الحرية والخروج من الصندوق في طبيعة تطوّر اللغة واعتباط تحوّلات دلالات ألفاظها عنق الزجاجة من دفتر التناقض الزمني

مشاركة :