في كل عام تحتفل معًا بذكرى اليوم الوطني نتحدث فيه عن الرجل الفذ الملك عبدالعزيز الذي كان وراء قيام المملكة العربية السعودية كما يعرفها الناس اليوم. فالحديث عن الملك عبد العزيز منعشًا وباعثًا على التفكير وذا طعم مختلف. عبد العزيز البساطة. عبد العزيز الصدق، عبدالعزيز الشجاعة، عبد العزيز السلام، عبدالعزيز الإنسان فالإنسانية حالة وعلامة وهوية دالة عليه تنطوي على سمت مثالي ودلالة عميقة تصل به الى مستوى المرجعية الإنسانية. فالإنسانية بمعناها المنهجي الشامل الخيط الناظم لحياته والتي منحته قبولًا وإجماعًا عامًا على المستوى الإنساني والأخلاقي والديني والتي منحته ضبطًا منهجيًا عميقًا في الاستجابة للأحداث والمواقف والواقع المتجددة والقدرة على مواجهتها في مختلف الأحوال والظروف. في أثناء كتابتي لسيرة الشيخ إبراهيم بن محمد بن معمر التاريخية [1878 – 1958م] توقفت طويلًا عند قصة إنسانية تاريخية حدثت عام 1935 أثناء ما كان الشيخ إبراهيم بن معمر قائم مقام جدة أبانت تلك القصة عن الإنسانية الكاملة والشاملة والفريدة للملك عبدالعزيز والتي تظل عنوانًا نادرًا في هذه الأزمنة. تلك الإنسانية التي تمثل معاني الإنسانية الحقة والتي تصل به إلى حد النموذج المثالي للإنسانية المتكاملة والتي تحيل على معنى الإنسانية في اعلى صورها. فعندما ننظر في خارطة الأفعال والأقوال نجد أن علاقة الملك عبد العزيز مع الإنسانية حالة متفردة ترتكز على أساس إيماني. وهنا يبدو لنا الشاهد والموقف بكل تفاصيلة الإنسانية، والذي يظهر لنا من خلال هذه القصة الإنسانية. في عام 1926 أقام الاتحاد السوفيتي علاقة دبلوماسية مع مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها؛ فقد كان الاتحاد السوفيتي يسعى إلى إقامة علاقات ثنائية مع مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها؛ ليكون له موطئ قدم في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر، إضافة إلى أن الاتحاد السوفييتي يدرك المكانة القيادية للمملكة على مستوى العالم العربي والإسلامي خاصة للجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز والواقعة ضمن منظومة الاتحاد السوفيتي ولكي تكون على تواصل بمركز العالم الاسلامي، وبالذات فيما يتصل بالحج والعمرة. ومن جانب مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها تدخل. في نطاق العلاقات الدولية وذلك من خلال اعتراف الاتحاد السوفيتي بمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، وتعيين السفير نظير توريا كوف سفيرًا للاتحاد السوفيتي في جدة، وكانت علاقة تقوم على التوازن والتكافؤ ومصالح الطرفين وكانت قد شهدت العلاقة الثنائية تطوُّرًا كبيرًا تكللت بزيارة الأمير فيصل بن عبد العزيز [الملك فيصل] نائب الملك على الحجاز إلى موسكو في 29 مايو 1932. إلا أنه في عام 1935 أصاب تلك العلاقة الثنائية بعض الفتور الى توقفت نهائيا وذلك بعد أن شهدت جدلًا فكريًا وفلسفيًا ومواجهات ثقافية، وذلك لتناقض أصلي بين المعتقدات والتي كان حينها الاتحاد السوفييتي يقوم على نقيض الرؤية الدينية للعالم الإسلامي. وبما أن العلاقة قُطِعت؛ فقد جاءت بارجة حربية سوفييتيه إلى ميناء جدة لنقل أعضاء السفارة والبعثة الدبلوماسية والقنصلية وأجهزة ومتعلقات السفارة، وكان يتبع للسفارة السوفييتية مركز صحي يتواجد فيه طبيب روسي مسلم وممرضان. وعندما توجه جميع أعضاء السفارة إلى البارجة التي كانت ترسو في الميناء لم يظهر من بينهم الطبيب الذي كان في المركز الصحي، مما اضطر البارجه للتأخر عن المغادره في سبيل العثور عليه. وفي منتصف الليل اتصل رئيس الحرس بقائم مقام جدة الشيخ إبراهيم بن معمر؛ ليخبره أن شخصًا يطلب مقابلته. فقال له ابن معمر: ليتفضل في المكتب، جاء ابن معمر إلى المكتب ومعه سكرتيره إبراهيم الحسون، وإذا برجل مربوع القامة، شعره أشقر، يرتدي ثيابًا بيضاء ونظارة سوداء، صافح ابن معمر، وقال له: أنا عبدالكريم أوف، الطبيب الروسي المسلم في الملحق الصحي بالسفارة السوفييتيه، والذي كان يبحث عني الأمن؛ لتخلفي عن السفر مع أعضاء البعثة السوفيتية. وقد اختفيت عن الأنظار؛ لعدم رغبتي بالسفر إلى الاتحاد السوفيتي؛ خوفًا على حياتي، فالاتحاد السوفييتي دولة شيوعية ملحدة، ولا تعترف بالأديان، وإنني ألتمس حمايتكم، وأن أكون طبيبًا عندكم، سواءً في مكة المكرمة أو جدة، ولن أخرج من هذا المكان حتى تحكم في أمري، فأنا الآن أعتبر نفسي لاجئًا عندكم. كان الشيخ ابراهيم بن معمر يصغي إلى الطبيب الروسي وعندما انتهى من كلامه، قال له: إن التقاليد العربية تحمي من هو في مثل وضعك، وأنت فوق ذلك رجل مسلم، والحكومة السعودية ملزمة بالدفاع عن أي مسلم يلجأ إليها مهما كلفها ذلك من مشقات وتضحيات، أنت الآن هنا في بيتك، وستبقى ما دام لديك الرغبة في البقاء. ثم أمر رئيس الحرس بتجهيز غرفة خاصة للطبيب؛ ليرتاح فيها. ومن ثم طلب من سكرتيره إبراهيم الحسون أن يكتب برقية للملك عبد العزيز، يشرح فيها قصة الطبيب، ويلتمس من جلالته العطف على هذا الطبيب المسلم، وأن القائم مقام قد أفهم الطبيب بأنه أصبح الآن في رعاية الحكومة السعودية، ولن يصل إليه أي أذى. راجع ابن معمر البرقية وعدّل عليها، وطلب من سكرتيره الحسون إرسالها فورًا إلى الديوان الملكي بالرياض، وثم اتصل ابن معمر تليفونيًا بإدارة اللاسلكي في جدة، يستعجلهم في إرسال البرقية، وكان مضمون البرقية: [أن البارجة الروسية التي انتقل إليها جهاز السفارة في جدة راسية في الميناء، تنتظر إحضار الطبيب]. وبعد ساعتين ومع أذان الفجر تقريبًا؛ إذ بموزع البرقيات ينتظر على باب القائم مقامية [الخزنة] ومعه برقية مستعجلة، وكان القائم مقام بن معمر يتهيَّأ؛ استعدادًا لصلاة الفجر، وبالقرب منه سكرتيره الحسون، طلب منه استلام البرقية، فقرأ ابن معمر البرقية والتي مضمونها: [ابن معمر - جدة – ج – برقيتكم رقم.... بشأن الطبيب الروسي، أحسنتم بتصرفكم، والمذكور يتوجه إلى مكة، وقد عمدنا الابن فيصل بإشعار السلطات الروسية بأن الطبيب المذكور لاجئ لدى المملكة العربية السعودية، وقد وافقت على طلبه، ومنحته حق اللجوء لديها، ولذا فلا موجب لبقاء البارجة بعد الآن في الميناء، كما عمّدناه باتخاذ اللازم نحو تأمين سكن للمذكور في مكة، وتوفير كل ما يحتاجه، التوقيع: عبدالعزيز]. وعندما قرأ ابن معمر البرقية نزل ومعه سكرتيره الحسون إلى المصلى الذي يقع في الدور الأرضي، وكان الطبيب قد سبقهم إلى المصلى، وكان يؤدي سنة الفجر، فظل ابن معمر واقفًا بجواره حتى انتهى من سنة الفجر، وابتسم وسلَّم له البرقية، وبعدما قرأها أجهش بالبكاء من الفرح، ثم ضم ابن معمر على صدره، معبِّرًا عن أصدق الدعوات للملك عبد العزيز وللأمير فيصل ولابن معمر. هذه القصة الإنسانية مؤسسة على الفهم العميق للمثل العليا، والتي تنبعث من الفطرة لتصل إلى الإنسان عن طريق المبادرات والمواقف، والتي تعبّر عن إحساس عميق بالإنسان. يؤكد هذا الموقف الإنساني على حكمة ونظرة واسعة ومتسامحة تضع الاعتبارات الكبرى للإنسان ولكن قبل كل هذا انحيازًا واعيًا للإنسانية.