بيروت - سلوى ياسين - نقلنا لكم – بتجــرد: تألق الفيلم في مهرجان عمان الدولي للأفلام، حيث قدَّم قصة تعبر عن تناقضات رمزية دقيقة. حصلت هذه الدراما العصرية على بعد أسطوري وزمني فريد. يتبع الفيلم قصة صبي يبلغ من العمر 12 عامًا يُدعى قدحة، واسم أُلقي عليه من قبل والده الذي غادر تونس إلى إيطاليا في رحلة بحرية خطيرة جمعت بينه العديد من المهاجرين غير الشرعيين، وهم يسعون بشدة نحو أوروبا، وكان هذا هو آخر ما سُمع به قدحة من والده. باستخدام لغة السينما والتصوير الفني، نجح الفيلم في إيصال مشاعر الفقد والأمل والتميز بين العالمين الثقافيين، من خلال رؤية المخرج الجريئة والتمثيل المميز، ترسم القصة تحولات جدية في الشخصية ورحلته نحو فهم تلك التناقضات والبحث عن هويته الحقيقية. هذا الفيلم ليس مجرد دراما، بل هو أيضًا عملٌ فني يلمس أوتارًا عاطفيةً عميقة ويجعل المشاهدين يفكرون في تأثير الهجرة والهوية على حياة الأفراد، إنه تحفة سينمائية تستحق الاعتراف بها على الساحة الدولية. في عمق أفق البحر اللامتناهي، حيث تلتقي السماء بالماء في لوحة فنية تبهج العقول، كان البحر دائمًا يشكل مصدر شوق للصبي الصغير قدحة. كان يقضي أوقاتًا طويلة على الشاطئ بصحبة أصدقائه، حيث يجسدون أعمالًا تافهة مثل سرقة اللحظات من الزمن واستفزاز الأمواج المارة. وفي هذا الزمان الصعب، حيث لم تستطع والدته بوركانا تحمل تكاليف العلاج الضروري لقدحة، ظهرت يد المساعدة من عائلة كريمة تدعمهم ماديًا وتقدم لهم مأوى، كانوا يشاركونهم أيضًا في محنتهم، حيث كان ابنهم يخضع لعلاج معقد لمرض الكلية في المستشفى. لكن مع مرور الأيام، بدأت الشكوك تتسلل ببطء إلى قلب الصبي، والارتياح يتلاشى تدريجيًا. لا يمكن لقدحة أن يمحو الشعور الغريب بأن هناك شيئًا خفيًا وراء كل هذا اللطف الذي تلقاه من مضيفيه، وفي الوقت نفسه، تنمو صداقة متينة بينه وبين ابن العائلة، الشاب أسامة، الذي يتعافى من عملية زرع الكلية. لكن كانت المفاجأة الصادمة لاحقًا، حيث كشفت الحقيقة المروعة أمام عينيه، تبين لقدحة أن والدته باعت كليتها الثمينة من أجل مستقبل أفضل لعائلتهم، هذا الألم الصامت دفعه بعيدًا عن عائلته وصديقه وألقاه في أحضان البحر، حيث تتلاقى الرموز وتتصاعد الأحداث بشكل مأساوي. لا تشكل هذه القصة مجرد أحداثٍ متسلسلة، بل هي رسالة عميقة وفنية تجسد تأثير غياب الوالدين والقرارات الصعبة على حياة الأطفال. تحمل مشاهد هذا الفيلم القوي الذي يحمل عنوان “حياة ثانية” رسالة إنسانية تعكس الأزمات التي يواجهها الكثيرون في جميع أنحاء العالم، الفيلم هو إسهام مميز في تاريخ السينما التونسية وقد حقق نجاحًا هائلًا في مهرجانات السينما العالمية ونال جوائز مهمة. الفيلم يُقدِم هيكلًا راسخًا للقصة، ينتقل فيها بين التناقضات الرمزية المعقدة، تبرز هذه التناقضات في جوانب متعددة، مثل الفرق بين العالم البسيط على الشاطئ والحياة الكئيبة والمعقدة في المدينة، والأسرار المخفية وراء اللطف الظاهر للعائلة الراقية. هذه التناقضات تضفي عمقًا على القصة وتثريها، كما تسلط الضوء على تطور قوي لشخصياتها على مر الزمن. جاديها نفسه يخضع لتحول كبير، حيث يتحول من صبي يشعر بحنين إلى والده المفقود إلى شخص يواجه صدمة عميقة بسبب خيانة والدته. هذا التطور يسلط الضوء على رحلته الشخصية وعلى النضوج الذي يحققه. يظهر الفيلم تأثير هذه القضايا بشكل مؤثر على حياة الأفراد وبشكل خاص على حياة الأطفال، كما يُسلط الضوء على صور رمزية مميزة وأحداث مؤثرة، مثل المشهد المستوحى من صورة الصبي السوري الغارق في البحر، كل هذا يزيد عمق الفيلم ويجعله يثير تفكير المشاهدين إلى حد بعيد حول المواضيع الشائكة التي يتناولها، الأطفال يصبحون شخصياتٍ محورية وتظهر تأثير الأحداث عليهم بجلاء، مما يساعد على تعاطف المشاهدين معهم وفهم تجربتهم الصعبة، كما تحافظ الحبكة على تشويق المشاهدين من خلال تطورات درامية متنوعة طوال الفيلم، ويبرز أيضًا مشاهد مؤثرة، مثل انهيار قدحة عندما يكتشف الحقيقة ولحظات الصدمة الناجمة عن الأحداث المأساوية، مما يزيد تأثيره العاطفي. تألق الإخراج في هذا الفيلم يتجلى على نحو متميز من خلال استخدامه الصور والإطارات البصرية بأسلوب يجمع بين الإطلالات الخلابة على الشاطئ واللقطات الحضرية المشحونة بالتوتر، وتم استغلال الألوان ببراعة فائقة لنقل المزاجيات والعواطف، مما أضفى مما أضفى على الفيلم طابعًا خاصًا وأثرًا عميقًا. علاوة على ذلك، تألق الأداء التمثيلي في الفيلم، وخاصة من قبل الأطفال الصغار الذين أدوا أدوار الشخصيات الرئيسية. يظهر أداء ياسين ترمسي في دور قدحة بعمق وصدق يلامس القلوب، مما أثرى تجربة المشاهدين وأمكن لهم التعاطف مع شخصيته والتأثر بمشاعرها الصعبة. لا يمكن تجاهل مهارة المخرج في إخراج المشاهد الحساسة والمؤثرة على نحو استثنائي، إذ تكمن في تلك المشاهد قوة الفيلم السينمائية. فمثلاً، مشهد انهيار جاديها عندما يكتشف الحقيقة يُظهر بتأثير وألم فائقين، مما يعزز من عمق الفيلم ويأسر قلوب المشاهدين. يظهر من خلال هذا الفيلم أن المخرج أنيس الأسود يتقن فن التعامل مع القصص المعقدة والمؤثرة، توجيهه الفني الرائع وانتباهه لأدق التفاصيل، بالإضافة إلى أداء الممثلين الرائع، جميعها عناصر تجعل من “حياة ثانية” عملاً سينمائيًا قويًا ومؤثرًا يستحق التقدير والاعتراف.
مشاركة :