الشيء المقيت هو ان تفعل أمراً سيئاً، والأكبر مقتاً أن تقول ما لا تفعل، ولهذا أكد الله سبحانه وتعالى هذا الأمر بقوله تعالى في سورة الصف: (كبُر مقتاً عند ٱلله أن تقولوا ما لا تفعلون) وكان الحديث عن المنافقين، وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: آيات المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، واذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وربما تلك أمور طبيعية في عصرنا هذا أن نرى المنافقين وأصحاب النفوس الضعيفة، فهم في النهاية بشر يخطئون ويستغفرون ويطمعون في رحمة الله ومن بينهم ضعيف الإيمان ومتوسط الطاعة والبعيد عن ذكر الله ومحاسبة النفس، والطامح في الدنيا وكأنها ستدوم له والكثير الكثير من صنوف البشر.. ولكن.. الأكبر مقتاً بين هؤلاء من يقولون ما لا يفعلون، فتلك قصة وردت لي من صديق يقول فيها، ذهبت مع أحد الأقرباء في مدينة تبعد عن مقر سكني وقد صادف ذلك يوم الجمعة، فذهبنا معاً لأحد المساجد لأداء صلاة الجمعة، وهناك سمعت خطيباً مفوهاً يلقي خطبته عن الأمانة وفضلها وحسناتها، ويحذِّر من مغبة فقد الأمانة سواء على الفرد أو المجتمع ككل، ولطلاقة لسانه وتمكنه من الخطبة وإلمامه الديني بجوانب القضية التي يناقشها، استطاع أن يجذب انتباهي ويؤثر فيَّ بشكل كبير وأثار إعجابي الشديد به، وتمنيت أن يكون لدينا خطباء بمستواه في بلدنا ومنطقتنا، بل ودعوت الله أن ينصر الإسلام بأمثال هذا الرجل الورع. وواصل الحديث قائلاً، وعندما خرجنا أنا وقريبي من الجامع صارحته بمدى إعجابي بهذا الخطيب وحبي له كرجل دين يعرف كيف يوجه المسلمين لما فيه الخير ويحذرهم من عواقب السيئات، لكن سكوت قريبي كان غريباً فلم يتكلم ونظر إليَّ بشفقة وهو يبتسم ابتسامة باهتة، فآثرت الصمت إلى أن وصلنا البيت وتغدينا وجلست معه وسألته عن ابتسامته الغريبة ونظرته لي عند خروجنا من المسجد، فقال لي: للأسف الشديد، هناك الكثيرون من الناس البسطاء مخدوعون في امثال هذا الرجل مثلك تماماً ويعتقدون أنه مثل يحتذى به كولي من أولياء الله الصالحين، لكن الحقيقة تختبئ تحت عباءته وتكاد تطل برأسها وأراها كما يراها آخرون يعرفون حقيقته، فقلت بذهول.. كيف؟ رد قريبي: هذا الرجل استغل ما يحظى به من نعمة الخطابة وحلاوة اللسان ليهتك الأمانة التي كان يحدثنا عنها، فقد أوكله أهالي القرية لجمع التبرعات والمساعدات من ميسوري الحال وحث اﻻغنياء على التبرع للمحتاجين نظراً لما يحظى به من مكانة واحترام في المجتمع وقد ذهب بالفعل وتمكن من جمع الأموال الطائلة لمصلحة هؤﻻء الفقراء، لكنه لم يكن أميناً كما تصور الناس، وعاد ليعطي القليل مما جمع، وأقنع الناس بأن الأغنياء ضنوا بأموالهم وقد اقتنع الجميع لأنهم يثقون به. وظل الحال هكذا لفترة ليست بالقصيرة، يذهب الشيخ ليجمع المساعدات المالية ولا يعطي اﻻهالي سوى القليل منه ويحتفظ لنفسه بالباقي، إلى أن أتى اليوم الذي لاحظ فيه الجميع مظاهر الثراء على الشيخ الجليل فالبيت توسع وابتلع كل ما حوله من بيوت، حتى الطريق وأصبح قصراً وامتلك اكثر من سيارة فارهة وكلها تنبئ عن مدخول غير طبيعي، وهنا عرف الجميع حقيقة هذا الشيخ. ويقول قريبي إن المصيبة الكبرى في هذه القصة أن هذا الشيخ لا يستحي أن يخرج على الناس ويصعد المنبر ليتحدث عن الشرف والأمانة واﻻخلاص ويطالبنا بها، فما كان من أحد الأشخاص المجهولين إلا أن كتب بخط عريض على بيت هذا الشيخ قول الله تعالى يأيها ٱلذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون وتلك الآية لم يستطع أحد أن يمحوها من عقول وقلوب أهل القرية، فبقيت شاهدة عليه الى يوم القيامة.
مشاركة :