هل سمعت يوماً بشخص يدعى ليون باتيستا ألبرتي؟ هذا الرجل إيطالي عاش في القرن الرابع عشر إبان عصر النهضة. وكان متعدد المواهب والإنجازات. فكان مهندساً معمارياً، وكاتباً، ورساماً وموسيقياً وعالماً في الرياضيات، وله نظريات في الجمال والتصميم البنائي لنظام الأعمدة. فهل عرفناه بهذه الجوانب المميزة المتعددة في شخصيته؟ أبداً، وإنما بمقدرته على الوقوف وقدماه مضمومتان إلى جنبهما جنباً، ثم وهو بهذه الوضعية يستطيع القفز فوق رأس الرجل الذي أمامه. ولو لم يكن في وسعه أن يقوم بهذه الحركة، ربما لما عرفنا شيئاً عن تاريخه، على رغم كل ما كان عليه الرجل. فأحياناً ما يحتكم المرء على الكثير مما يستحق التعريف به، ومع ذلك لا يَلفت الانتباه إليه. ثم يأتي على أمر يعتبره تافهاً في رأيه، ولكن للمفارقة، يكون هذا الشيء بعينه هو منطلق شهرته، وربما خلود اسمه. غريب هو منطق الأيام والأشخاص. وهذه الغرابة أكثر من أي زمن مضى أصبحت هي السائدة والمتصدِّرة في عصر ثورات التواصل الاجتماعي الافتراضي، إذ أصبح كل هم المرء أن يعصر مخه ليخرج بفكرة أو حركة تسترعي انتباه الناس، فيجذبهم إلى حساباته المتعددة على «النت» سواء كان «تويتر» أم «انستغرام» أم «يوتيوب»... إلخ وسائل الانتشار للإعلام الجديد. فكلما زاد عدد المتابعين ارتفع المؤشر بالمكانة والأهمية. وما يلحقهما من الفائدة المعنوية والمادية. فتتهافت على المعني بنقطة الضوء دعوات حضور اللقاءات والندوات، وربما للتحدث عن تجربته، أو بالأحرى عن فرقعته. وقد تعرض عليه الوظائف لشغلها فقط، لأن العدد الذي يتابعه صار في خانة الألوفات. فهل نقول إن فقاعة الصابون لها بنية تستند إليها؟ الفقاعة لا يملأها سوى الهواء. ومن عجائب الزمان أنها تطير وتعيش ولا تنفّس بسهولة. حتى أصبحت الأجواء حبلى بالفقاعات الهوائية. ولو عاش العقاد وطه حسين في هذا العصر، لاندثرت جهودهما وضاعت مع زحمة «بالونات» الهواء. أو لوجدا لأدبهما طريقاً للترويج مع تلك الأجسام الطائرة لعلهما يلفتان العقول حينها إلى بضاعة أصيلة. هذا عصر التفاهة بلا منازع. ولا وقت لأهله ولا جَلَد لهم على الأصالة. وكل سريع ومخطوف من على الوجه هو المطلوب. وكل ما عداه ثقيل وغير محبّذ. وهي دورة حياة لا بد لها من أن تكتمل بما هي فيه وعليه. وبعد تمامها سيأتي يوم وكأنه ليس هناك من مزيد. وسيتنبّه الناس إلى ذلك وسيملّون من تكرار الأساليب المسلوقة ذاتها. وهنا قد يبدأ الجيل الموجود وقتذاك في الرجوع إلى جذوره، والتأسيس لأصوله الغائبة. وقد يخاصم الأدوات التواصلية التي ساهمت في اغترابه عن نفسه وهويته. وقد يبالغ في الهجر والتنّكر لتلك الأدوات التي كان لها المجد والأوجه يوماً. مثله في ذلك مثل ابن أهمل أبواه تربيته، أو منحاه من التفهّم الديموقراطي الشيء البعيد. فيأتي على أبنائه فيحيطهما بتربيته المبالغ بها، أو بحسمه بالضبط والربط. وكأنها حال إنسانية عامة بين البشر في التمرّد على أوضاعهم، والاشتياق إلى خلاف ما اعتادوا عليه! يجوز أنه سيكون مجرد تحرّر من الأوضاع القديمة، والعودة بالفكر والحياة إلى منابتهما وأصولهما. ويجوز أيضاً أنه اقتناع عن دليل وبرهان بالنتائج غير المرضية للواقع الذي تسيّد سنين. إنما الشيء الأكيد أن هذه الدورة الحياتية وركوب موجة «اختصر وهات من الآخر»، لن تغلب موجات أخرى ستخرج من القاع وعمق المحيط وتطغى عليها. وساعتها سيحصر الناس تقديرهم بمن لديه ما يستحق الذكر قولاً وفعلاً، وليس لإيجادته الحركات البهلوانية في الهواء. فإن كان الناس والمفترض فيهم العمق والمعرفة في عصر النهضة تذكّروا ليون بقفزاته، فسيكون على المرء في مستقبل قادم ومجذّر أن يثبت معدنه ويقنع التاريخ بأكثر من كل ما مضى. وعندها لن يرتاح أحد ويشعر بالعدل أكثر من أصحاب المواهب والجهود الحقيقية. suraya@alhayat.com
مشاركة :