هناك أكثر من كتاب في التراث الإسلامي يقول إنه يروي قصص الأنبياء، قصص تختلف من رواية إلى أخرى، كما تختلف في أساليب سردها علاوة على مضمونها، وهو ما يجعل منها أقرب إلى السرد الأدبي، ويتطلب دراسة أساليبها ومضامينها بدقة وحياد، وهذا ما قام به الباحث والأكاديمي السعودي سمير الضامر. في كتابه “قصص الأنبياء في التراث الشعبي”، والصادر حديثا عن معهد الشارقة للتراث، يقدم الباحث والأكاديمي السعودي سمير الضامر، تحليلا ثقافيا لموروث الأنبياء في الفكر والفن الشعبي، وذلك من خلال دراسة معمقة لمجموعة الكتب التي أنتجتها الثقافة العربية الإسلامية في عصورها المبكرة. يدرس الضامر عدة كتب تحمل عنوان “قصص الأنبياء”، أو تقترب منه، وهي كتب كثيرة من أهمها وأشهرها “قصص الأنبياء”، و”التيجان في ملوك حمير” وهما لوهب بن منبه (ت 110 هـ)، و”المبتدأ في قصص الأنبياء” لمحمد بن إسحاق (ت 150 هـ)، وقصص الأنبياء، لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ)، وهو مأخوذ من كتابه المشهور “تاريخ الأمم والملوك”، و”المبتدأ في قصص الأنبياء” لأبي بكر محمد بن عبدالله الكسائي (ت 350 هـ)، و”قصص الأنبياء” المسمى “عرائس المجالس” لمحمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري (ت 427 هـ)، و”تاريخ الأنبياء لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، و”قصص الأنبياء” للحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774 هـ)، وغيرها من الكتب الكثيرة التي لم يخل قرن من القرون الإسلامية من تأليف وجمع العشرات منها. حرفة الفنون السردية قصص الأنبياء في التراث الشعبي العربي تختلف عن قصص الأنبياء التي ذكرت في القرآن أو الأحاديث النبوية قصص الأنبياء في التراث الشعبي العربي تختلف عن قصص الأنبياء التي ذكرت في القرآن أو الأحاديث النبوية وبحسب مقدمة الكتاب، الذي حمل الرقم 11 ضمن سلسلة “عالم التراث”، فإن تلك الكتب التي تناولها المؤلف بالدراسة والتحليل، تعد من الكتب الأولى التي زخرت بها الأساطير القديمة، ومسائل الأنثروبولوجيا والعقائد والتاريخ المشتت الذي حاولت هذه الكتب جمعه من دون النظر في ما وراءه تأويلا وتفسيرا. واعتبرت مقدمة الكتاب أن لهذا النوع من التأليف في “قصص الأنبياء” أهدافا مختلفة ومتعددة، حاول بعض مؤلفيها ذكر ذلك وشرح أسبابه وأهدافه الدينية والتاريخية، إلا أن تلك الأهداف لم تكن مقنعة لدى الباحث الذي وجد فيها أبعادا أكثر أهمية من طريقة القصص الديني المتعارف عليه. وبمعنى آخر فقد وجد الباحث سمير الضامر أن قصص الأنبياء في التراث الشعبي العربي تختلف عن قصص الأنبياء التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، أو صحيح الأحاديث النبوية، كما أنها لم تكن قصصا عادية أو بريئة، بل تدخلت فيها الصناعة الفكرية وحرفة الفنون السردية، وصارت مشتملة على العديد من الأنواع – المعرفية والسردية والأنثروبولوجية – التي أسست خطابا مهما مؤثرا في التراث العربي ولم يكن لها نصيب من الدراسات المعمقة. ووفقا لنصوص الكتاب، فقد كان جديرا بالباحثين دراستها وفق أسس ومناهج حديثة تفكك وتفسر رموزها وأنساقها ومفاهيمها الشعبية المختلطة مع المفاهيم الدينية القرآنية، ومن خلال هذا الأمر فقد انبثقت أسئلة كثيرة حول خطاب قصص الأنبياء في التراث الشعبي العربي، منها: هل قصص الأنبياء نصوص دينية مقدسة أم نصوص بعضها ديني وآخر أنتجه المقدس الإلهي والبشري؟ وهل أثرت الثقافة والاتجاهات المذهبية في صناعة تلك النصوص؟ وما دلالة اجتماع الأمرين المقدس وغير المقدس الإلهي والبشري؟ وهل أثرت الثقافة والاتجاهات المذهبية في صناعة تلك النصوص؟ ويواصل الضامر التساؤل كيف يمكن للثقافة التي أنتجت نصوص “قصص الأنبياء” أن تزيحها من القصة ذات البعد اللغوي المنغلق على ذاته، لتنفتح على الخطاب بما فيه من محمولات مضمرة تشمل الطقوس والأنساق والرموز؟ وكيف يمكن تصنيف تلك النصوص والخطابات في سياق الثقافة العربية التي طغت عليها الثقافة الشعرية قولا ونقدا أكثر من الثقافة السردية؟ وبحسب نصوص وصفحات كتاب “قصص الأنبياء في التراث الشعبي”، فإن الأسئلة السابقة كانت من أهم المحفزات لاختيار هذا الموضوع، الذي ظل وقتا طويلا بمنأى عن دراسات الباحثين، مقارنة بما كانت عليه الدراسات الكثيرة لقصص أخرى، كقصص المقامات: مقامات بديع الزمان الهمذاني، والحريري وقصص الحيوان الرمزية، مثل كليلة ودمنة وقصص البخلاء والشطار، والقصص الفلسفية كرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقصة حي بن يقظان لابن طفيل، والقصص والملاحم الشعبية، كقصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، وسيرة بني هلال، وسيرة الأميرة ذات الهمة، وغيرها كثير. وكما يدلنا الكتاب، فإن هناك أسبابا أخرى تضاف إلى هذه الأسئلة المعرفية، منها: قلة وربما ندرة الدراسات التي تناولت “قصص الأنبياء” من منظورها الشعبي والإنساني في التراث العربي بوصفها خطابا رمزيا ونسقيا أسهمت التصورات والمفاهيم في إنتاجه وإعادة صياغته، وذلك مقارنة مع العديد من الدراسات التي درست عموم السرد القديم دراسات تاريخية وصفية، ويوم أن تطورت فإنها لم تخرج عن دراسة جوانبه الشكلانية وتقنياته السردية. وقد سعى المؤلف من خلال فصول كتابه لدراسة النصوص السردية القديمة، ونصوص “قصص الأنبياء” على وجه الخصوص، دراسة تقوم على إجراءات منهجية وبحثية معاصرة، تثير أسئلة النص القديم وتظهر أبعاده الدلالية والمعرفية القائمة على نظريات السيميولوجيا، ومظاهر الأنثروبولوجيا في السرد القديم، وتقدم من خلال ذلك قراءة جديدة لهذا النوع من النصوص التراثية من أجل الكشف والتحليل وتفكيك سلطة النص. دراسة معمقة تتطرق إلى الثقافة العربية الإسلامية في عصورها المبكرة دراسة معمقة تتطرق إلى الثقافة العربية الإسلامية في عصورها المبكرة وتكمن أهمية الموضوع في دراسة “قصص الأنبياء” من نظرات مختلفة منهجية وموضوعية، فالمنهجية بسبب ندرة وقلة الدراسات الجامعية التي تنحو المنحى السيميائي والدلالي في دراسة النصوص القديمة، مقارنة مع كثرتها في الجانب الشكلاني والبنيوي. والموضوعية لأن “قصص الأنبياء” بوصفها نصوصا ثقافية اهتمت بالبدايات الأولى للكون والإنسان وأشكال الوجود المختلفة من خلال مزجها بخطابات الأدب والتاريخ وعلم الإنسان والآثار، وبوصفها نصوصا تستمد مصادرها من كتب المعرفة الدينية والعلمية والأسطورية، وهذا يجعل منها خطابا ذا بعدين، مركبا ومضمرا، لهما دلالتهما فيما أنتجته أدبيات الأساطير العربية الإسلامية، التي ترمي وترمز من خلاله إلى نوعين من الحقيقة هما الحقيقة الدينية، والحقيقة البشرية (الأيديولوجيا). ومن هنا، ومن أجل تقديم توضيح أكثر لأهمية دراسة هذا الموضوع، فقد حرص مؤلف الكتاب على أن يستعرض أهم الدراسات السابقة في هذا المجال، وهي التي كان لها دور الريادة والتحفيز في إتمام هذه الأنواع من الدراسات السردية. وقد أجاد مؤلف كتاب “قصص الأنبياء في التراث الشعبي”، في تقسيم فصول كتابه – الذي هو بمثابة عمل بحثي موسع – بناء على ما أغفلته الدراسات السابقة، أو اقتربت منه من دون معالجته معالجة حقيقية أو ما كان متفرقا من أشتات الخطاب الذي كان بحاجة إلى لم شتاته، ثم تفكيك ما في هذا الخطاب من مكونات لا تخص الجانب السردي وحده، بل بمؤازرة من الجانب الأنثروبولوجي. وقد رأى المؤلف أن المبحث الأنثروبولوجي ذا البعد الإنساني في خطاب “قصص الأنبياء” يعد من أهم ما بني عليه هذا الخطاب، وهو من أشدها تعقيدا، وخاصة في ما يخص التماهي بين ثنائيتي المقدس والمدنس في “قصص الأنبياء” التي طالت كل ذلك الخطاب وتغلغلت في كل تفاصيله بلا استثناء، ولذلك فقد قسم البحث إلى ثلاثة فصول، ابتدأ كل منها بتأسيس نظري نقدي للجانب المعرفي الذي تتحدث فيه، ثم الدخول في جانب العرض والتحليل ومناقشة النصوص المناسبة لفصول البحث. وجاء الفصل الأول ليبحث في قصص الأنبياء من الشفاهية إلى الكتابية، بينما تناول الفصل الثاني رمزية الأشياء في التصورات الإنسانية والمعرفية في “قصص الأنبياء”، وكرس الباحث الفصل الثالث لقصص الأنبياء بوصفها خطابا رمزيا. منهجية الكتاب الكتب التي تناولها المؤلف بالدراسة والتحليل، تعد من الكتب الأولى التي زخرت بها الأساطير القديمة، ومسائل الأنثروبولوجيا والعقائد والتاريخ المشتت الذي حاولت هذه الكتب جمعه الكتب التي تناولها المؤلف بالدراسة والتحليل، تعد من الكتب الأولى التي زخرت بها الأساطير القديمة، ومسائل الأنثروبولوجيا والعقائد والتاريخ المشتت الذي حاولت هذه الكتب جمعه بالنسبة إلى المنهج المتبع في دراسة هذه النصوص فقد كان بحثا في نظرية تحليل الخطاب، وهو الخطاب الأنثروبولوجي الذي ظهرت ملامحه وأشكاله في سرديات قصص الأنبياء الشعبية، باحثا عن الدلالات والعلامات الإنسانية فيما وراء السرد القصصي، وكشف البنية العميقة لما وراء السرد القصصي، وذلك من خلال تجاوز البنية السطحية، التي تقابل القارئ لأول مرة في قراءة النص، إلى البنية العميقة التي تكشف عن المعاني والأبعاد الإنسانية، وقد كان ذلك ظاهرا في أشكال سرود “قصص الأنبياء” المذكورة، إذ أنها – وبحسب نصوص الكتاب – لم تكن حبيسة الجانب اللغوي، بمقدار ما هي منفتحة على كل أشكال الأبعاد الإنسانية بما فيها من ثنائيات مختلفة، كالمقدس والمدنس والخير والشر. وقد سار المؤلف في دراسته لقصص الأنبياء من خلال كشف الأفعال الإنسانية التي أظهرتها قصص الأنبياء الشعبية وسكتت عنها قصص الأنبياء كما هي في القرآن الكريم، وذلك باعتبار أن القرآن الكريم قد جاء مجملا للأحداث والقصص النبوية، وذلك على سبيل العظة والعبرة في سبيل ترسيخ الإيمان بالله تعالى وبأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، لكن قصص الأنبياء الشعبية قامت بهذه الرحلة الفنية والأيديولوجية من خلال الانطلاق من القرآن الكريم والاستفادة من قصصه لتأسيس البنية السردية الشعبية والتفصيل لكل ما أجمله القرآن في قصصه وسرد تفاصيلها من خلال معارف ثقافية مختلفة (عقائد، أديان، أساطير، ملاحم، مرويات شعبية وخرافات الأقدمين). النتيجة، كما يرى مؤلف الكتاب، هي ظهور نوع جديد من القصص الأنبيائي الممزوج بالمقدس والبشري، وهذا “يعد تشكلا للأيديولوجيا والمذاهب المختلفة على المستوى الفكري، أما بالنسبة للمستوى الفني فهو استحضار الخطاب القصصي الأنبيائي وإعادة روايته/ كتابته بمختلف المنظورات اللغوية السردية الشعرية الإنسانية”. وإن الأبعاد الدلالية للأفعال الإنسانية الكامنة في تلك النصوص كثيرة وخطيرة، فقد أسست لثقافات بشرية مختلفة ومتعددة، وأزاحت النص الديني القرآني وصحيح السنة النبوية إلى نصوص بشرية قصدت تفعيل الفكر والأيديولوجيا، وصار الأنبياء وقصصهم في حالة تنازع بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة منذ العصور الأولى للإسلام إلى أن تشكلت في الخطابات السنية والشيعية والصوفية بما لا يدع مجالا للناظر إليها على أنها تمثيلات لغوية لنشاط غير لغوي يتمثله السياسي والحزبي والقبلي على حد سواء، وبما يعزز من الحالة الوجودية وأشكال الصراع المختلفة بينها. يذكر أن كتاب “قصص الأنبياء في التراث الشعبي”، لمؤلفه الباحث السعودي الدكتور سمير الضامر، صدر ضمن سلسلة “عالم التراث”، التي تصدر عن معهد الشارقة للتراث، التي يرأس تحريرها الدكتور عبدالعزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، فيما يتولى الإشراف العام على السلسلة الدكتور مني بونعامة، ومدير تحريرها الباحث إيهاب الملاح، والإخراج الفني لمنير حمود.
مشاركة :