يمكن قراءة موقف البرلمان الأوروبي في ضوء توصياته الأخيرة لدول الاتحاد بخصوص معاقبة مصر بعد حادث مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني من أكثر من زاوية؛ هناك زاوية آليات وديناميات صنع القرار على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، هناك زاوية الفجوة بين توصيات وسياسات الاتحاد وأجندة صنع القرار في دوله فرادى، هناك زاوية مركزية الأوروبي الأبيض في النظر إلى مشاكل الشرق الأوسط وعدم تحركه إلا إذا ارتبط الأمر بأحد مواطنيه، وكذا هناك زاوية المصالح كمحرك للقرارات، كما أن هناك زوايا أخرى مثل المؤامرات والرغبة في إسقاط مصر وهى عادةً زاوية الدوائر القريبة من السلطة المصرية أو المتطوعة للحديث باسمها. كذلك يمكن قراءة المستقبل في الأجلين القريب والمتوسط للعلاقات المصرية الأوروبية بشكل خاص أو المصرية الغربية بشكل عام، غالبا لن تكون التكهنات صعبة، في الأجل القريب قد تمر العلاقات ببعض التوتر، تصريحات هنا وهناك، مناورات يمينا ويسارا، تلويح بالعقوبات، لكن على الأجل المتوسط من المستبعد اتجاه العلاقات إلى الانهيار أو إلى فرض عقوبات صارمة على النظام المصري أسوة مثلا بعقوبات سبق وتم فرضها على إيران أو العراق أو السودان أو ليبيا من قبل المجتمع الدولي. فالغرب، وأعني هنا تحديدا دوائر صنع القرار على المستويات الوطنية الأوربية والأمريكية، مازال يرى أن تكلفة تغيرات غير محسوبة في مصر قد تكون عالية وغير متوقعة ولن يكون بمقدور هذه الدوائر الدخول في مثل هذه المقامرات. *** لكن بعيدا عن هذه التوقعات والقراءات من زوايا مختلفة، فإن هناك نزيف مصري غير مرئي بسبب تدهور حقيقي وملموس لمؤشرات الحريات وحقوق الإنسان والتضييق على المجتمع المدني وما يشمله ذلك من سياسات التحرش المستمرة بالمنظمات الحقوقية والبحثية في مصر، خسائر قد لا يراها المواطن المشغول بقصص المؤامرات، أو المثقف الذي وهب حياته للحديث باسم السلطة معتبرا أن ذلك وطنية، وقطعا لن يراها صناع القرار في الدوائر السياسية والدبلوماسية والأمنية المصرية المدفوعين بثقتهم التامة أن الأمور على ما يرام وأنه لو تأزمت فإن هناك آخرون سيدفعون الثمن، أرصد هنا نزيف على أربع جبهات على النحو التالي: • نزيف في الشرعية السياسية لنظام الحكم المصري: مصر الجمهورية منذ السبعينات وبعد أن قررت الانتقال من معسكر عدم الانحياز (في الواقع كانت منحازة للاتحاد السوفيتي) إلى معسكر الولايات المتحدة، هذا الانتقال الذي ارتبط بحزمة تحولات سياسية محلية وإقليمية ودولية (اقتصاد السوق وما يستتبعه ذلك من الارتباط بالمؤسسات والسياسات المالية الغربية، التعددية السياسية المقيدة، الصلح مع إسرائيل، التخلي عن دور المواجهة لصالح لعب دور الوساطة)، فإن جانب من شرعية نظام الحكم فيها ارتبط بالدعم الرسمي الغربي في شكل منح ومساعدات وصفقات ودعم سياسي. مصر (السلطة) لا تستطيع أبدا أن تفرض عزلة على نفسها كما يطالب البعض أو أن تجد بديلا للحلفاء الغربيين في عالم تم حلحلة القطبية الاقتصادية والسياسية والعسكرية فيه لصالح تشبيكات ومناورات ومصالح متداخلة بين القوى الكبرى على الساحة الدولية. قد يرغب صناع القرار الغربيين في استمرار الدعم ولكنهم في النهاية يخضعون لضغوطات المجتمع المدني والرأي العام ومراكز الأبحاث الذين أصبحوا أكثر قدرة على مشاكسة السياسيين الغربيين وإحراجهم أمام الناخبين وخاصة بعد أن طالت الانتهاكات مواطنيهم، وفي ظل تلكؤ وتسويف أمني غير مسؤول على الجانب المصري، هذه المشاكسات تتحول تدريجيا إلى ضغوطات وستنجح إن عاجلا أو آجلا في الحد من الدعم الغربي اللامحدود لمصر، ووقتها لن تطيق مصر شبه عزلة غربية ستفرض عليها وستفقد جانب كبير من شرعيتها وثقلها في النظام الدولي. • نزيف مالي لصالح مقاولي الكسب السريع: المتابع لطبيعة الشبكات السياسية التي مازالت تدعم مصر في الغرب سيجد أن معظمها مرتبط بجماعات ضغط ودوائر اقتصادية وأمنية تسعى لتحقيق مكاسب مالية في شكل صفقات ربح سريعة، صفقات تعتمد على تمويل مشاريع عملاقة بأقل درجات أمان ممكنة، في بيع سلاح بصفقات مغرية في بلد ميزانيته أصلا مرهقة، فتواصل مصر النزيف المالي لأصحاب صفقات الربح السريع، الذين يستغلون ضعف أو انعدام الرقابة والمحاسبة لتحقيق مآربهم. • نزيف القوة الناعمة والمركزية الإقليمية: ليس صحيح أن قوة مصر الناعمة قاصرة فقط على محيطها العربي بفعل فنها وإعلامها ومثقفيها وسياستها وتاريخها، الحقيقة أن قوتها الناعمة أيضا كانت متمثلة في أنها قبلة لفاعلين عدة من غير الدول في الغرب، مصر كانت قبلة للباحثين، للمنظمات الدولية غير الحكومية، للجماعات الحقوقية، للمشاريع التنموية المرتبطة بتشبيكات حكومية وغير حكومية غربية، للمشاريع البحثية والأكاديمية المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بدوائر صنع القرار في الغرب، لا يوجد باحث أو حقوقي أو سياسي أو إعلامي مهتم بالشرق الأوسط إلا وقد مر من مصر وعبرها؛ جزء من ثقلك وسمعتك كباحث في مجالات الشرق الأوسط أن تكون قد مررت عبر بوابة مصر، باحثا أو كاتبا أو دارسا أو حتى متابعا، مصر الناصرية، مصر الجماعات الإسلامية، مصر الحركات الثقافية، مصر الريادة الإعلامية، مصر مصنع نجوم الفن والسينما، مصر الحرب والسلام، مصر بسبب هذه التنويعات وهذا الثقل على كل المستويات كانت مركزية في كل الدوائر سالفة الذكر. بعد ثورة يناير زاد هذا الاهتمام وتدفقت المشاريع البحثية والثقافية وتضاعف الاهتمام الحقوقي والسياسي والإعلامي، أصبح كل فاعلي مصر محل رصد ودراسة ومتابعة، هذا ما لم يفهمه الأمن المصري ومثقفو الضرورة والاستثناء، هذه ليست مؤامرات، هذه فرص لمصر لم تحسن الأخيرة استغلالها بسبب ضيق الأفق وانعدام الكفاءة، الآن كل هذا الاحتفاء يذهب، مراكز الأبحاث والدراسات هربت إلي بيروت وعمان، المشاريع البحثية والثقافية تم إعادة توجيهها إلى تونس والرباط، المثقفون والإعلاميون والباحثون الغربيون أصبحوا يخشون زيارة مصر ويفضلون أن يتحدثوا من الدوحة واسطنبول، بدأت موجة جديدة من هجرة العقول بعد خروج العديد من الباحثين المصريين إلى أوروبا وآسيا وأمريكا وبعض الدول الخليجية، أصبحت الجامعات والمحافل الأكاديمية الغربية المهتمة بالشرق الأوسط توجه تحذيرات صريحة بعدم الذهاب إلى مصر باعتبارها دولة غير آمنة. • نزيف السردية المصرية: الاستشراق في الكتابات الأكاديمية بخصوص مصر يعود مجددا، ولكن هذه المرة على يد باحثين شرقيين بعضهم من أصول مصرية أو عربية وجد في الأوضاع الحالية فرص ذهبية لتأسيس سرديات تشنف آذان الغرب بخصوص مصر، سرديات تضع مصر تحت المزيد من الضغوط والعزلة، سرديات تعتبر أن مصر فأر للتجارب ولكن هذه التجارب لم يعد من الممكن أن يقوم بها الرجل الأبيض وليقوم بها إذن هؤلاء بدعوى أنهم أقرب للثقافة والفهم، سرديات قد تبالغ أحيانا أو تخلق واقعا وفرضيات مصطنعة بالأساس لتعزيز مكانة هؤلاء وزيادة ثمنهم في السوق، سرديات ستدفع مصر ثمنها غاليا في المستقبل، لكن من السبب في كل ذلك؟ *** حينما يأتي باحثا لدراسة الأحزاب أو النقابات المصرية أو حتى الجماعات الإسلامية فإن هذا ليس تجسسا ولا يستدعي أصلا أن يسترعى أي انتباه، لأن ذلك يعني أن مصر بكل تناقضاتها، نجاحاتها أو إخفاقاتها، معارضتها أو حكومتها، حاضرة في الأجندات الأكاديمية والغربية، أي نص مكتوب يتمتع بهيمنة وحضور تاريخي، فحينما يردد هذا النص جمل مرتبطة بمصر كالحديث عن الفاعلين السياسيين أو الحقوقيين فيها فإن هذا يعزز مكانة مصر في الذهنية الغربية أو غير الغربية، يجعل مصر دائما حاضرة في المحافل والنقاشات السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية! حينما يأتي دعما نقديا أو فنيا للمجتمع الحقوقي المصري، فإن هذا ليس تآمرا ولا عمالة، بل هو تأكيد على أن مصر بلد كبير ومتنوعة تقبل بالتعددية، فيها مجتمع مدني قوي إذن فهي دولة قوية وواثقة. ماذا يضير مصر أن يسافر هذا الحقوقي أو ذاك الباحث إلى مؤتمرات دولية حقوقية أو سياسية أو أكاديمية؟ أليس ذلك تأكيدا على الحضور والثقل والتنوع؟ هل حكومات بيروت، تونس، عمان، الرباط، الدوحة أو حتى اسطنبول بالضرورة أكثر أهمية للغرب من القاهرة؟ بالتأكيد لا، ولكن لأن هناك صناع قرار يعرفون كيف يسوقون لبلدانهم، متى تكون الشدة واللين، كيف يكون الشد والجذب، فإنهم استطاعوا لفت الأنظار واستغلال فرصة تغييب القاهرة بيد سلطتها لا بيد آخرين. السياسات الحالية طالما أنها لا تتغير فستتحول مصر إلى بلد منبوذة، بلد معزولة، بلد يتعامل معه البعض على أنه منكوب، بلد يسمع البعض عنه لا منه عبر وسطاء لأنه أصبح يلفظ الآخر. مدوا أيديكم إلى المجتمع المدني، الحقوقي والبحثي والتنموي، شجعوا الحوار والتفاوض، أكدوا على سيادة القانون والدستور بإجراءات عادلة على المخالفين وقانونية وفقط؛ بلا تضييقات عديمة المعنى وشديدة السطحية والعشوائية على أعداء وهميين، التاريخ بالفعل يتجاوزنا ومالم نستفيق سريعا سنجد أنفسنا في ذيل الأمم.
مشاركة :