وضعت كارثة درنة ليبيا والليبيين، وأشباه «المؤسسات» من حكومتَين وبرلمانَين وجيوش وميليشيات، في اختبار مريع أمام أزمة غير متوقّعة بطبيعتها المناخية ولا بأهوالها المائية الإقتلاعية، القاتلة والمدمرة. خُيّل لأمراء الحرب وقادة الزُمر وتجار السياسة، وللدول المتدخّلة البعيدة والقريبة، أن الصراع على السلطة بين غرب ليبيا وشرقها هو اللعبة الوحيدة المتاحة في هذه البلاد، طالما أن هناك نفطًا يغذّيها ويديرها، فلا حاجة الى تمويلها. وإذا بالإعصار «دانيال» يباغت الجميع، جارفًا ألوف الأرواح ومئات المباني وكمًّا لا يُحصى من تجارب الناس وآثارهم وذكرياتهم في تدبّر حياتهم رغدًا وكفافًا وعوزًا... كل ذلك اندثر في السيول والوحول واندفع سريعًا إلى البحر. لعلّ الأبيض المتوسط شهد لتوّه، وللمرّة الأولى في تاريخه، حدثًا بهذا الفظاعة، من صنع الطبيعة أو البشر. كانت تلك عاصفة من صنع المناخ المتغيّر، المستمرّ في توجيه إنذاراته لأهل الأرض، لكن جانبًا كبيرًا من الكارثة تسبّب به المتنافسون على السلطة والثروة، المتخلّفون الجاهلون أن في طيّات السلطة واجباتٍ لا يمكن اهمالها أو نسيانها. تصرّف سياسيو ليبيا كما لو أن هذا الحدث أزعج تركيزهم على مؤامراتهم ودسائسهم، شرقًا وغربًا، وعلى الانتخابات التي أدخلوها في متاهة أطماعهم فيما كان يُفترض أن تدشّن خريطة طريق لاستعادة ليبيا وحدتها. فقبل أيام من الكارثة كان رئيس ما تُسمّى «حكومة الوحدة الوطنية» (وغَدَت «حكومة طرابلس») عبد الحميد الدبيبة يستمزج احتمال دعم إسرائيل لدى واشنطن للإبقاء على حكومته مقابل «تطبيع» العلاقات. وفي اللحظة التي كانت تتجمّع فيها العاصفة فوق شرق ليبيا (الأحد 10.09.23) كان الصدّيق حفتر، نجل المشير خليفة، يقدّم نفسه في باريس «مرشّحًا للرئاسة» قائلًا إن ترشيحه «سيكون إضافة إيجابية» لأن «عندي قدرة على تغيير المشهد بصورة فاعلة... وأنا جاهز لمساعدة أفراد الشعب الليبي في أي موقع». ما هي إلا ساعات قليلة حتى كانت درنة والبيضاء وشحات وغيرها «مواقع» في حاجة ماسّة إلى مساعدة، وما كان لدى المهووسين بالأسلحة والسيطرة والسلطة سوى وسائل قليلة للإغاثة ووسائل أقل للإنقاذ، وبالكاد وجدوا السبل للوصول إلى الأمكنة المنكوبة. كان لديهم القليل من المعلومات لتقدير حجم العاصفة، إذ أن أعوام الصراعات «دمّرت شبكة الأرصاد الجوية وأجهزة الكومبيوتر» (وفقًا لبيتيري تالاس، رئيس المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة)، لكن كان لديهم الكثير من اليقين بأن الأمر لن يتعدّى مجرد فيضانات سبق للمنطقة أن شهدتها في أعوام 1941 و1959 و1968 ولذا فبعدما طلبوا من السكان إخلاء المدن، كما يحصل في أماكن كثيرة في العالم، عادوا فنصحوهم بأن يلزموا بيوتهم. لم يكن واضحًا أن ثمة استعدادات اتخذت، ولم يفطن أحد إلى التشققات المعلنة منذ منتصف التسعينيات في سدّ وادي درنة الأعلى وسدّ أبو منصور السفلي، فزاد انهيارهما حجم العاصفة أضعافًا مضاعفة. لم يعطِ مَن يمكن أن يسمّوا «مسؤولين» في ليبيا انطباعًا بأنهم قدّروا جيداً ما هو آت. الأرجح أن متابعتهم لمحطات «دانيال» قبل وصوله إلى ليبيا قد ضلّلتهم فاعتقدوا أن بإمكانهم احتواءها، لكنهم نسوا أو تناسوا أن ثمة «دولة» ساهرة على البنية التحتية وقادرة على مواجهة الطوارئ حتى الطبيعية، سواء في اليونان أو في تركيا وبلغاريا، ومع ذلك لم يشأ المعنيون في ليبيا أن يروا التخريب الهائل الذي أحدثه الإعصار في وسط اليونان حيث دمّر جسوراً ومباني وأتلف زراعات وجرف مواشي، وإذ لم يخلّف سوى عدد محدود من الضحايا البشرية فهذا، مرّة أخرى، لأن «الدولة» موجودة ومتنبّهة وتتحمّل المسؤولية ولا تنتظر- كما فعلت «اللادولة» في ليبيا- من يأتي ليقول، بعد الكارثة في درنة، إنه «كان من الممكن تفادي سقوط معظم القتلى». لم يبرهن حكام ليبيا فحسب أنهم لم يكونوا يعرفون ما يجب أن يفعلوا، بل ان الانقسام ما بين شرق وغرب أربك الاستجابة اللازمة والسريعة للكارثة، بمقدار ما أربك الجهات الخارجية الراغبة في المساعدة التي لم تتدفق جدّيًا إلا بعد مرور ستة أيام على الحدث وبعدما أصبح جزءًا كبيرًا من درنة ببشره وحجره في جوف البحر. ففيما أوحت حكومة طرابلس بأن القدرات المحلية كافية، كانت حكومة بنغازي تطلب وترحّب بالمساعدات. اعتبرت الأولى أن الكارثة يجب ألا تسحب منها صفتها كـ «مرجعية» لكل ليبيا، أما الثانية فوجدت أن قربها من المناطق المنكوبة فرصة لاجتذاب الاهتمام الدولي إليها. أي أن كلّاً من الحكومتين اهتمّت بإظهار أن الأمر لها وأنه لا مجال لأي تغيير «سياسي» على خلفية الكارثة. الأسوأ أن أيًّا منهما لم تجد في الكارثة حافزاً لإثبات الجدارة أو لاستنهاض «وحدة البلد»، ولما تنبّه المجتمع وحاول استجابةً وحدويةً لهذه اللحظة العصيبة وُوجه بالصلف السلطوي، فـ «حكومة البرلمان»/ «حكومة الشرق» هي التي يجب أن تتولّى إدارة الأزمة، وما على البنك المركزي سوى أن يوفّر التمويل من دون تدخّل «حكومة طرابلس». أخرجت سلطات «حكومة الشرق» الاعلاميين من درنة، وأعادت تنظيم حركة فرق الإغاثة، وأخضعت دخول فرق الأمم المتحدة لشروط بعد امتعاضها من حصيلة الـ 11300 ضحية التي قدّمها المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية، كما حرصت على ابقاء عدد الضحايا في حدود الـ 4000 وفرضت تعتيماً على أي تقدير لعدد المفقودين. وفي الاثناء قمعت السلطات تظاهرة غاضبة وصفتها بـ «الفتنة»، لكن أهالي درنة طالبوا بالتحقيق والمحاسبة مذكّرين بتحذيراتهم المتكررة من تسرّب المياه من السدّين، وبعدما هتفوا ضد عقيلة صالح و«حكومة البرلمان» وُصفوا بـ «الإرهابيين» المنتمين الى جماعات متشددة، في استذكار لاجتياح قوات حفتر درنة عام 2018 للقضاء على «الجهاديين» المتمركزين فيها. كان «من تبقّى من سكان درنة» عرضوا في بيان 16 مطلباً، بينها تسريع التحقيق في الكارثة، واتخاذ الإجراءات القانونية والقضائية ضد كل من له يد في إهمال أو سرقات (ثمة اعتمادات خُصّصت في 2012 و2013 لصيانة السدّين ولا يُعرف مصيرها). وفي ما يخصّ إعادة اعمار المدينة أعرب الأهالي عن انعدام ثقة واضح بالحكومتين بالإلحاح على أن تكون كل المشاريع دولية وبإشراف الأمم المتحدة، مطالبين بمؤتمر دولي. هنا وجدت «حكومة الشرق» أن هذا المطلب يوافق طموحاتها لتعزيز «شرعيتها» فأعلن رئيسها، أسامة سعد حماد، دعوة المجتمع الدولي الى المشاركة في مؤتمر لإعادة الاعمار «نزولاُ عند رغبة سكان المدينة» متجاهلاً أن هؤلاء طالبوا بصندوق مالي خاص باسم درنة من دون ربط بأي أعمال أخرى. لكن أي مؤسسات دولية ستُقبل على إعادة اعمار مدينة وإنْ منكوبة في بلد مندفع الى التقسيم؟ * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»
مشاركة :