يمكن رؤية «القبائل» الجديدة المتناثرة في مجتمعنا عبر: هوس الانتماء للفرق الرياضية، الانضمام لمجموعات التواصل الاجتماعي بالإنترنت، الإدمان على مواقع إلكترونية معينة، التعصب لجماعات فكرية ولنجوم من الدعاة والفنانين.. وحتى الولع بأساليب رقص معينة «بربس» مثلاً. هذه «القبائل» الجديدة تتشكل مؤقتاً وسرعان ما تتغير، لكنها قبائل مؤثرة بقوة في مجتمعنا، حسب نظرية «القبَلية الجديدة» إذا طبقناها على واقعنا المحلي. فهل هذه النظرية مناسبة أم منافية لواقعنا المحلي؟.. الإجابة ستكون في الجزء الأخير من المقال، لأنه قبل ذلك ينبغي التعرف على هذه النظرية التي طرحها عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيسول في عالم سريع التغير، يتصف بالمخاطرة وعدم التوقع، يحتاج الأفراد إلى طرق للحصول على الاستقرار النفسي وعلى معنى لحياتهم. وإذا كنا نعيش اليوم في عالم تتزايد فيه المعلومات أكثر فأكثر فإن المعاني تتقلص أقل فأقل حسب تعبير المفكر الما بعد حداثي بودريار. فأين المعنى؟.. المعنى ضاع متناثراً في انفجار المعلومات وتشتت الخطاب الإعلامي.. والحالات توترت مع التقلبات الاقتصادية.. والهويات تمزقت مع ضعف الروابط الاجتماعية.. صار الأفراد غير مستقرين الآن.. إنهم قلقون يبحثون عن الاستقرار والإرشاد عبر دائرة أوسع لمصادر بديلة.. فماذا حدث؟. الذي حدث هو أن المجتمعات الحالية فقدت ثقتها بالمنهج الحديث ومؤسساته، وصار لديها حنين للماضي متطلعة إلى أساليب التنظيمات القديمة كي ترشدها في تيهها وسوف تعتنقها، حسبما يرى مافيسول؛ مؤكداً أنه بناء على ذلك فإن عصر ما بعد الحداثة سيكون عصر القبلية الجديدة..»نحن نعيش في زمن القبائل» يقول مافيسول. لكنها قبائل من نوع جديد.. فإذا كان الانتماء التقليدي يتحقق منذ الولادة، فإن الأشكال الجديدة للانتماء والتجمعات تتحقق من خلال النشاط فيها.. أنت تختار قبيلتك! لقد بدأت القبائل الجديدة في الظهور بحركة صاخبة في الثمانينات: مثل الولع الهائج بفرق غنائية وبأسلوب رقص معين، أو فرق كرة القدم، أو برامج تلفزيونية، أو فلسفات بديلة.. إنها قبائل: حسية عفوية، متحركة وعابرة. أهم سمات القبيلة هو تكرار الطقوس المشتركة بين أفرادها كوسيلة لتحقيق تضامنها. هذه المشاركة في التجارب والأذواق ذات أهمية بالغة للقبائل الجديدة أكثر من هوية الفرد الشخصية السائدة في زمن الحداثة. الهوية الحداثية تتشكل مع الوعي الجمعي، بينما الهوية القبيلة تتشكل مع الوعي الجزئي (الفئوي)، كما أنها متغيرة غير مستقرة، لذا فالفرد يمكنه التنقل بين الجماعات في حياته اليومية محققاً استكمال وجوده الاجتماعي. الوجود الاجتماعي الحالي يُدار عبر التجمعات القبلية الجديدة المتناثرة، وتنتظم هذه الجماعات حول الشعارات البراقة، والعلامات التجارية، والثقافة الاستهلاكية.. إنه توالد مستمر لثقافات جديدة في أسلوب الحياة مؤدياً إلى صعود أنماط جديدة للهوية، فالثقافة الجماهيرية السابقة تفككت. لذا، فالأساليب التقليدية لفهم المجتمع الحالي والتضامن الاجتماعي مختلة للغاية، حسب طرح مافيسول في كتابه المثير «زمن القبائل». مافيسول هو أول من وضع مصطلح «القبلية الجديدة» في المجال الأكاديمي. مفهوم هذا المصطلح هو أن الناس في وقتنا الحاضر بدؤوا يتشكلون داخل المجتمع القبلي (الجزئي)، كمقابل للمجتمع الشامل الحداثي، وبالتالي سوف تتكون طبيعياً الشبكات الاجتماعية التي تؤلف هذه «القبائل» ليصبح الزمان زمانها. فهل هذا الطرح واقعي؟. مجموعة من الباحثين عملت دراسات ميدانية مسحية لهذه النظرية، وخلصت نتائجها إلى دعم حجج «القبلية الجديدة» ولكن على نحو أكثر اعتدالاً. وأشارت استنتاجاتها إلى أن ثمة انهياراً عاماً في البنى الاجتماعية للحضارة الحديثة بسبب التقلبات الاقتصادية، وضعف الروابط المجتمعية والصداقات، وتشتت الخطاب الإعلامي. لكن نظرية «القبلية الجديدة» لمافيسول تعرضت لانتقادات حادة، وهي نفس الانتقادات الموجهة عموماً لنظريات ما بعد الحداثة، باعتبارها تطرح مغالطات أكثر من حقائق (لويس فولونت)، فلا المؤسسات الحداثية تفككت، ولا المؤسسات البديلة سادت. أما عالم الاجتماعي البريطاني هيثرنجتون فقد وسع مفهوم القبلية الجديدة باعتبارها رد فعل على تفكك مؤسسات مجتمع ما بعد الحداثة، معتبرا أنها تجمعات الأحاسيس. إذا اتفقنا أن النظرية الجيدة تعني التقائها مع الواقع، فإن نظرية مافيسول تلتقي معه في حالات وتخالفه في حالات، فلا بد من الموازنة بينهما.. في تقاربها مع واقعنا المحلي يمكننا أخذ مثال هوس الانتماء لفرق كرة القدم.. فإذا كان أهم سمات القبائل تكرار الطقوس المشتركة لتضامن القبيلة، فإن لون قميص النادي أصبح رمزا تعريفياً مهماً عند المنتمين للنادي يحضر في كافة المناسبات.. فأنت ترى هذا اللون أصبح حالة مميزة للأفراد المنتمين للنادي.. والأمثلة الأخرى كثيرة، كالافتتان بنجوم الفن والغناء من جهة أو نجوم الإنترنت من دعاة وناشطين وكوميديين من جهة أخرى. على المستوى الاستهلاكي يمكن ملاحظة الانتماء لمجموعة استهلاكية (للمعاملة التفضيلية) في كبرى المحلات التجارية كسوبر ماركت أو خطوط طيران.. أو حتى نوعية بطاقتك الائتمانية التي ربما تشكل هويتك التعريفية أكثر من بطاقتك الشخصية، رغم أنها بلا صورة في زمن الصورة. كذلك في مسألة الهوية الداخلية في ذات الإنسان، صار الفرد في حالة قلق حاد.. باحثاً عن ذاته وعن نفسيته وعن وضعه الاجتماعي، كما نلاحظه في انتشار اللجوء للدورات التدريبية والكتب والمجلات والاقتراحات حول السعادة واللياقة البدنية وبناء العلاقات الاجتماعية وحلول المشاكل العائلية والزوجية والجنسية، وعلاقات العمل والزمالة.. حتى النظريات العلمية لعلماء الطبيعة، على المستوى العالمي، لم تعد متماسكة كالسابق، بل أصبحت مفرطة في نسبيتها، فضلاً عن المفكرين الذين أصبحوا في موقع شك حيناً وموضع تندر حينا آخر. أما خبراء التوقع الاقتصادي فصاروا محل سخرية مع حالة الاقتصاد المتقلبة. كل ذلك يجعل من الفرد يبحث عن خلاص في الماضي عبر القبيلة أو «القبلية الجديدة»، مما يجعل هذه الأخيرة نظرية ومصطلحاً، طرحا مثيراً ومتميزاً. إلا أن هذه النظرية جنحت في تأطيرها النظري زاعمة أن المؤسسات الحديثة فقدت دورها القيادي، بينما المؤسسة الكبرى وهي الدولة القومية لا تزال قوية ومعها فروعها المؤسسية ومعاييرها الأخرى من دين وعائلة وموقع وظيفي وجنس وعرق، التي حاولت نظرية مافيسول أن تقنعنا بأنها صارت ضعيفة. كما أن القبائل الجديدة التي طرحتها النظرية كمقومات قوية ومهيمنة لم تصل لهذه الدرجة من القوة، على الأقل في وقت الراهن. مقالات أخرى للكاتب هل تندمج إيران مع المجتمع الدولي؟ الاقتناع بالتحول الوطني التحول الوطني وقفزة النمر الآسيوي تجارة الجهل مزدهرة درجة الفساد محلياً وعالمياً
مشاركة :