تمضي ليالي حلب المظلمة والباردة هذه اﻷيام ببطء لا يدرك ثقله سوى أبنائها الذين ما زالوا على قيد حياة ما فيها. في هذه الليالي وعلى أصوات الوحشة والخوف التي تثيرها المعارك القريبة والكلاب النابحة على جثث أخيرة، يفرد الحلبيون، كل على حدة، ذاكرة أيامه قبل الحرب وكأنه يقلبها في كتاب. يصنف الواحد منهم الصور واﻷحياء والتواريخ ويقلب الوجوه الراحلة موتاً أو هجرة والباقية صموداً أو عجزاً ويحاول وصل ما تعمل نهارات الحرب على فصله في وجدانه وعقله بلا هوادة. لميا واحدة من أولئك الذين تتجاذبهم أطراف ذاكرة هذه الليالي القاسية وأصواتها. كل ليلة، وهي تمرر يديها على حبات سبحتها القاسية وهي بثوب صلاتها اﻷبيض على ضوء شمعة خفيف، تستعيد مراهقتها المختلفة عن حياتها التي سارت إليها طوعاً قبل الحرب. كانت تضفر أمها شعرها كل صباح باهتمام قبل أن تهرول مسرعة إلى باص مدرستها المسيحية الخاصة التي حرص أهلها على نسبها إليها ككثرة من مسلمين أمثالها بحثاً عن فرص تعليمية أفضل عز عليهم إيجادها في المدارس العامة. كانت تروح تقضي نهاراتها في المدرسة صحبة الراهبات وطلاب من مختلف الطوائف يتقاطرون إلى المدرسة من مختلف أحياء المدينة. تعيش أيامها على وسع ما ارتضت لها مدرستها وارتضى لها أهلها. وتحلم بأن تكمل تعليمها لتصبح مهندسة معمارية ناجحة. لم تكن في ذلك الحين، كسواها من غالبية سكان المدينة ممن جايلوها أو ناهزوها عمراً، مشغولة بدرجات الجحيم وعذابات القبر ونواقض الوضوء. كانت تعرف الحلال والحرام جيداً. وكان هذا كافياً ليجعلها مسلمة صالحة تستحق النجاح في الحياة والجنة من بعدها. زمن طويل مر قبل أن تعي أن رفاقها وأساتذتها في المدرسة ما كانوا إلا «كفاراً». وأن أهلها أساؤوا صنعاً عندما جعلوها تتعلم في تلك المدرسة. هذا ما بدأت تسمعه أولاً من أخيها الذي تردد في عطلة صيف في تسعينات القرن الماضي على أحد معاهد اﻷسد لتحفيظ القرآن في الجامع القريب من منزلهم. وتالياً من القنوات الدينية التي تبث عبر اﻷقمار الاصطناعية التي كان همها حين أرادت أن تصل تلفاز المنزل بها أن تستمتع بقناة الموسيقى اﻷشهر ذلك الحين. بدأت كل يوم من التلفاز ومن أخيها تكتشف كما سواها من نساء العائلة أن إسلامها ناقص وأن عليها أن تتمه. تبدأ بالانزواء عن رفاقها ونشاطاتها وتتدرج في وضع الحجاب حتى تصل إلى الخمار الكامل. باتت نساء العائلة التي لم تعرف الخمار حتى في أقدم حارات المدينة يتسابقن في الوصول إليه. بعد أن بدأن بالتردد إلى دروس دينية خاصة بالنساء انتشرت في جوامع الحارات. تغيرت قراءة من يخرج من تلك الدروس إلى المدينة وأحيائها وأهلها. لم تعد نظرتهم إلى انفتاحها على اﻵخر وتنوعها وبعض مظاهر حريتها النسبية إيجابية. امتزجت نظرتهم الجديدة إلى كل ما حولهم بشعور عارم بضرورة الابتعاد عن اﻵخر والتشدد مع النفس والبدء برد جميع اﻷهل التائهين إلى جادة الدين السليم. المدينة التي لم تعرف حتى في ذروة معركة الثمانينات بين الإخوان المسلمين والنظام آراء وسلوكات مشابهة باتت تصغي لكلام عن نظام كافر يردده بعض من شبابها بخفر ثم يختفون من دون أن يجرأ أحد بالسؤال عنهم. ارتأت لميا أن تتزوج شاباً متديناً سعياً لتأسيس عائلة متدينة لا تشبه تلك العائلة التي تربت فيها. وفي سبيل ذلك تخلت عن وظيفتها التي سعت طيلة حياتها لنيلها ما إن تزوجت لأن هذه الوظيفة تفرض عليها اختلاطاً محرماً مع رجال أجانب وتلهيها عن تربية بناتها اللواتي بدأت بتحجيبهم منذ صغرهن حتى يتعودن على اﻷمر. لم يستغرق اﻷمر سوى أقل من عقد لتفقد مدينة لميا صوفيتها التي كانت رمزاً لها. بل لتصبح تلك الصوفية تهمة لأهلها من الذين تمسكوا بها وانزووا بها عن كل تلك التغيرات التي تجري حولهم. ولم يستطيعوا فهمها أو ردها. ولم تكن المدينة التجارية المتنوعة وحدها من شهدت هذا الانقلاب في أحوال أهلها واجتماعهم. بل ريفها أيضا شهده. هناك كان التغيير أقسى وأشمل بكثير. فقد تحولت بلدات كاملة تحت وطأة «العائدين» من بلدان قريبة وبعيدة، وتحت أنظار رجالات اﻷمن إلى التشدد التام. لا تستطيع لميا التي لا تزال تقيم في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أن تعي هذا الذي جرى كله. لكن قناعتها أنها على صواب في الطريق الذي سارت إليه. لا تمنع عنها حنيناً إلى تلك المشاوير التي كانت تقضيها في أحياء العزيزية والسليمانية المسيحية في المدينة صحبة رفيقاتها اللواتي لم تعد تسمع عن أخبارهن شيئاً منذ زمن بعيد. كان شراء اﻷلبسة الجديدة وتناول الحلويات على وقع أجراس الكنائس حكاية تستحق أن تروى كل يوم. لكنها حكاية انتهت لديها قبل الحرب بزمن طويل. ولم يبق منها سوى ألبوم صور، تسحبه اﻵن وتقلبه على ضوء شمعتها الخفيفة. تلمح صورة صديقتها ريتا التي لم ترها منذ سنوات. تشعر بغصة خفيفة. تكتمها وتعود منها إلى صلاتها وسبحتها. ريتا التي قتل خطيبها في أحد معارك جيش النظام مع المعارضة جنوب البلاد. هي اﻷخرى انزوت قبل الحرب بزمن طويل إلى عالم أهلها. باتت نادراً ما تلتقي صديقاتها القديمات. وإن حدث ذلك فصدفة. بل تطوعت في إحدى جمعيات الكشافة المسيحية قبل وقت طويل. جمعيات لم تعد تعرف ريتا من خلالها إلا بعض المدينة وبعض أهلها. تقوي لحمة شباب وأطفال المدارس المسيحية التي لم تعد تجد فيها طالباً مسلماً إلا نادراً. وعلى أنها تنمي فيهم مواهب ومشاعر إيجابية عدة، تعزز انعزالهم عن المدينة وأهلها وعن دورهم فيها. توقفت ريتا عن محاولة فهم هذا الذي جرى لأهل المدينة. كانت محاولة الفهم ترافقها منذ بدأت دوامها في محاضرات قسم اللغة العربية في كلية اﻵداب في جامعة حلب. فوجئت حينها بعدد المنقبات اللواتي يملأن المدرجات. وبمثلهن من أصحاب اللحى الذين يتركون المحاضرات طلباً للصلاة ويناقشون أساتذة الكلية «العلمانيين» بحدة وعنف ويكفرونهم. كانت أعدادهم وقوتهم تتزايد في القسم كل عام. وكان انكفاؤها إلى نفسها وإلى عالم أهلها يتزايد معه هو اﻵخر. في لحظات حنين قصيرة تستذكر ريتا ماضي مراهقتها وتقارنه بما يعيشه أطفال الجمعيات التي تتطوع فيها اﻵن. الشكل نفسه. لكن نفوس ورغبة شباب هذه الجمعيات بالوصول إلى اﻵخر في المدينة وإلى النجاح ومتابعة الحياة فيها مختلفة كثيراً عن الماضي. فالهجرة حلم الكثيرين هنا. ولا حلم سواه. تضع ريتا شالها الصوفي على كتفيها. وتخرج إلى الشرفة. العتمة في «شارع النهر» حالكة. وأصوات المعارك القريبة تردها إلى الداخل. هذا الشارع احتضن مشاوير كثيرة لها صحبة خطيبها أو صحبة صديقتها لميا. تحاول أن تفهم ما تبدل في ذاكرتها وفي ذاكرة المدينة علها تفهم ما يجري في حاضر المدينة أو ما سيأتي إلى أيامها مستقبلاً وتفشل. وتستكين بفشلها هذا إلى ليلة أخرى من ليالي الحرب وليالي حساب الذاكرة العسير فيها. حساب لم يتحمله الكثير من أبناء المدينة. كما لم يتحملوا قبلاً مدينتهم وأهلها وهم يتغيرون. فلم يستطيعوا التنكر لذاكرتهم ومجاراة تغيرهم ولا استطاعوا مقاومتهم أو مقاومة هذا التغيير فارتأوا الهجرة عنها بعد أن كفوا عن التعرف إليها أو التعرف إلى أنفسهم فيها.
مشاركة :