«رينوار أبي» لجان رينوار: سيرة مزدوجة من مبدع ابن مبدع

  • 3/14/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

«إن ما أريد أن أقوم به هنا إنما هو محاولة لصوغ ما أملكه من تجميع لمحادثات كنت أجريها مع والدي خلال السنوات الأخيرة من حياته، في معظم الأحيان. في الحقيقة أنني لن أنقل الحوارات الحقيقية التي لا أتذكرها، لكنني سأحاول أن أعطي فكرة عن انطباعاتي القديمة حول لقاءاتي معه، وعن الكيفية التي تمارس فيها تلك اللقاءات تأثيرها عليّ حتى اليوم. وهي كانت تشهد بيننا تلك المحادثات التي تطاول كل شيء: تجارب والدي الماضية، طفولته، عائلتنا، أصدقاؤه، ملابسات حياته وإدارتها. وكذلك تطاول كثيراً من الشكوك التي كانت تدور في خلده في ما يتعلق بالتبدلات السريعة التي تحدث في عالمنا المعاصر». هذه الفقرة، التي ترد في سياق كتاب جمعت فيه رسائل جان رينوار، المخرج الفرنسي الكبير، مجتزأة من رسالة بعث بها رينوار ربيع عام 1953، من المنزل الذي كان يقطنه في هوليوود، إلى ناشره بينيت سرف. يوم كتب هذه الرسالة معلناً فيها عزمه على إصدار كتاب حول أبيه يصاغ على هذه الشاكلة، كان رينوار في التاسعة والخمسين من عمره، وكان مضى ثلث قرن منذ رحل والده، الذي لم يكن سوى كبير الرسامين الانطباعيين بيار أوغست رينوار. وحين أنجز السينمائي الابن الكتاب بالفعل ونشره كان قد أضحى في الثامنة والستين. وأما الحوارات والمحادثات التي استند إليها الكتاب فقد جرت عام 1915، قبل وفاة رينوار الأب بأربع سنوات. ومنذ صدور الكتاب الذي حمل في الإنكليزية عنوان «رينوار، أبي» وفي الفرنسية «رينوار بقلم رينوار»، صار يعتبر مادة مرجعية أساسية، من ناحية لمن يريد كتابة أو قراءة سيرة الأب، أو لمن يريد أن يقرأ أو يكتب سيرة الابن، حتى وإن كان هذا الأخير نبّه، كما يجيء في الفقرة أعلاه، إلى أنه إنما يكتب كل شيء من الذاكرة، لأنه حين كان يتحدث إلى أبيه (وكان في الحادية والعشرين) لم يكن يتصور أنه سيؤلف كتاباً انطلاقاً من تلك الحوارات العائلية، بل لم يكن ليخيّل إليه أنه سيكون فناناً ذا شأن قد يهتم أحد في هذا العالم بما يكتبه عن نفسه أو عن أبيه. ولنضف إلى هذا أن رينوار الابن، حتى حين انكب على وضع الكتاب، آخر سنوات عمره، وجد لزاماً عليه أن يستعين بكثر من معارف أبيه، لا سيما بغابريال رينار سلاد، التي كانت مربية الابن وآخر موديلات الأب، وتعيش آخر حياتها على تخوم هوليوود. > إذاً، بالحديث مع غابريال، اكتملت مرجعية هذا الكتاب -المترجم في شكل جيد إلى العربية والصادر عن دار المدى قبل سنوات-، الذي كان واحداً من الكتب الكثيرة التي وضعها جان رينوار عن حياته وفنه كما عن عائلته وطفولته، بحيث اكتسب إلى جانب سمعته كواحد من كبار المخرجين السينمائيين في العالم ولا سيما بفضل فيلميه «قواعد اللعبة» و»الوهم الكبير»، سمعته ككاتب من طراز رفيع. ومع هذا، حين نقرأ «رينوار، أبي» لا نجدنا أمام سيرة ذاتية لجان رينوار، بل أمام محاولة حيوية لاستعادة ذكرى طفولة الكاتب وشبابه، من خلال كهولة أبيه. ما يعني أننا هنا، وإن في شكل موارب، أمام سيرتين اندمجتا في سيرة واحدة تكاد تخلو من الصراعات ولحظات التوتر والشك. فجان رينوار الذي اعتبر دائماً «شاعر السينما الفرنسية» بامتياز، لم يشأ في هذا الكتاب الذي جعل من أبيه، أنا/آخر لذاته، أن يخرج من تلك الشاعرية بأي حال من الأحوال. وفي هذا الإطار لم يكن بعيداً من الصواب ذلك الناقد الأميركي الذي كتب معلقاً على الكتاب عند صدوره: «إن لهذا الكتاب نكهة أفلام رينوار الباريسية الوديعة التي حققها بعد الحرب العالمية الثانية ومنها «فرنش كانكان» و «مسرح جان رينوار الصغير»، أكثر مما له نكهة الحس النقدي الصارم والمتمرد الذي نجده في فيلمي ما قبل الحرب «قواعد اللعبة» و»الوهم الكبير»...». وقد لاحظ هذا الناقد كيف أن الكتاب، بعدما بدأ بداية حادة بعض الشيء في روايته لأحداث مبكرة من حياة الأب مروية بلسانه، يهدأ ويصبح شديد العذوبة والتعاطف مع بيار أوغست، في حوارات بداية الحرب العالمية الأولى. وربما يكون مرد ذلك إلى أن إصابة جان بجرح بليغ في ساقه خلال تلك الحرب، زادت من تعاطفه مع أبيه، الذي كان يعاني أمراضاً كثيرة في ذلك الحين. > مهما كان من شأن هذا التحليل، يتعين علينا أن نلاحظ هنا أن الكتاب كله مملوء بلحظات التعاطف مع الأب. وكذلك بصفحات تحاول أن تبرر ما كان يؤخذ، في باريس في ذلك الحين، على بيار أوغست، من مواقف تتعلق بصداقات هدمت، أو بنساء أُغوين، أو بسياسة فضّل الأب الرسام أن يبقى بعيداً منها. وقد قيل دائماً أن من حظ رينوار الأب أن ابنه لم يضع ذلك الكتاب عنه إلا حين اقترب من السن العاقلة التي كان عليها الأب حين دارت بينهما المحادثات. إذ لو كان الابن صاغ هذا الكتاب وقت المحادثات نفسه، حين كان لا يزال يافعاً وينظر أحياناً بعين التمرد إلى سيرة أبيه ويستعد كي ينتزع منه لاحقاً واحدة من أكثر موديلاته جمالاً وحيوية (كاترين هسلينغ) محولاً إياها إلى بطلة أول أفلامه، لو صاغ الابن جان هذا الكتاب باكراً لكان حكمه على أبيه أقل اعتدالاً. > كان رينوار الابن يقول خلال السنوات التي أعقبت صدور الكتاب، حين يُسأل عنه: «لقد كان في إمكاني أن أكتب عشرة كتب بل مئة كتاب من حول سرّ رينوار وغموضه... من دون أن أفي الموضوع حقه». فهل علينا أن نرى في هذا القول محاولة لتبرير بعض ما في الكتاب، أو فعل إيمان بأن الفنان الكبير، أيّ فنان كبير، إنما هو عالم غامض سريّ عميق لا يمكن الكلام، كل الكلام أن يعبر عنه؟ المرجح أن الجواب مزيج من هذين الاحتمالين مع إضافة أساسية تلتقي مع الفكرة التي تلح دائماً على واقع أن كل كتابة إنما هي كتابة عن الكاتب أكثر مما هي كتابة عن المكتوب عنه، سواء أكان هذا بشراً أو حجراً أو حدثاً أو أي شيء آخر. ومن هنا الإحساس دائماً عند قراءة هذا الكتاب، كما لو أن جان رينوار تعمد الخلط فيه بين سيرته وسيرة أبيه، في كل لحظة وفي كل موقف. فمثلاً حين يكتب جان في أحد فصول الكتاب: «إن رينوار - هكذا كان يسمي أباه - كان من النادر له أن يدخل إلى كنيسته، غير أن التفسير المادي للكون لم يكن يلائمه. بالنسبة إليه هذا الكون يبقى مسكوناً بقوى غامضة، على رغم كل التحليلات والمظاهر». وهذا الغموض يقول جان: «الذي لا يمكن العقول العلمية المحضة أن تفسره، يبدو واضحاً وصافياً كالشمس المشرقة بالنسبة إلى أولئك الذين تسمهم صدقية ما بميسمها». حين يقول جان رينوار هذا عن أبيه، هل تراه لا يقوله عن ذاته أيضاً؟... وما هذا سوى نموذج بسيط وسريع للأسلوب الحي و «الذاتي» بالتأكيد الذي اتبعه جان رينوار في صوغه هذا الكتاب الذي يمكن، بعد كل شيء، اعتباره واحداً من أجمل كتبه، ويكاد يضاهي في قوته، قوة لغته السينمائية. > عاش جان رينوار بين 1894 و1979، وهو لئن كان قد ولد في باريس، فإنه رحل في لوس أنجليس حيث كان يعيش آخر سنوات حياته مفضلاً إياها على باريس التي كان بارحها خلال الحرب العالمية الثانية هرباً من احتلال النازيين لفرنسا. وقبل سنوات من رحيله كانت هوليوود منحت جان رينوار جائزة «إنتاج العمر» كما طبعت ذكراه على واحدة من بلاطات هوليوود بوليفارد المشهورة. ورينوار، منذ السينما الصامتة وحتى أفلامه الأخيرة التي حققها في فرنسا الستينات، اعتبر واحداً من أساطين فن السينما في العالم. أما هو فكان يضيف إلى هذا مذكراً بأنه كان ممثلاً أيضاً، وشاعراً وكاتباً... وكذلك كان «موديلاً» لأبيه الذي رسمه كما رسم أخاه بيار، في الكثير من اللوحات خلال مرحلة بيار أوغست التي تسمى بالمرحلة العائلية والتي رسم خلالها بعض أجمل لوحاته.

مشاركة :