ربعي المدهون: حيفا حاضنة ثقافية للفلسطينيين الباقين في وطنهم

  • 3/15/2016
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

الرواية الفلسطينية، مرت بمتغيرات عدة منذ غسان كنفاني ويحيى يخلف وغيرهما وصولاً إلى ربعي المدهون الذي وصلت روايته الأخيرة «مصائر... كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، وهو صاحب روايات «حكايات طعم الفراق»، و «السيدة من تل أبيب»، و «أبله خان يونس». وما يميز كتابات المدهون هو تحليلها الدقيق للعلاقة ما بين الفلسطيني ومكانه وما بين الفلسطيني والآخر المحتل أرضه. وأيضاً تمتاز أعماله بخوض غمار الغربة والمنفى في شخوص رواياته. وحول روايته الأخيرة والكتابة عنده عموماً، كان معه هذا الحوار. > تتقاطع المصائر في روايتك، متخذة شكل الكونشرتو الموسيقي في أربع حركات. ألم تخش التجريب، على رغم تبريرك له في تقديمك للعمل؟ - التجريب ليس مغامرة في مجهول تثير خشية. إنها عملية مفتوحة على الاكتشاف. محاولة لتحدي الساكن والجاهز وخلخلة بنيته. الرواية التي تتحقق فيها الإجابات عما تطرحه من أسئلة، لا تعود مهمة بعد وقت قصير. التجريب يطرح أسئلة على النص ولغته، وبنيته، الباحثة عن شكل يلمها بطريقة مختلفة. ولا يتحقق هذا كله إلا بخوض هذه المغامرة الجميلة. > قلت في تقديمك للرواية، أنك لم تر، من قبل، المدن الست التي زرتها. فكيف تخيّلت المكان قبل الكتابة وخلالها؟ - ما قلته هو أنني لم أعش في تلك المدن، أو أقطن فيها لفترات طويلة. لكني زرتها مراراً، وأصبحت حاضرة لديَّ، خصوصاً الأماكن التي استهدفتها الرواية، وحصلت فيها أحداثها. ما إن استوعبت «صدمة المكان»، في أول زيارة لي لمدن عكا وحيفا ويافا والمجدل عسقلان والقدس، حتى بدأت أسمع نبض هذه المدن نهاراً، وأنصت لأنفاسها ليلاً. في الزيارات التالية، لم تعد هذه المدن صوراً في ذاكرة نقلتها عن ذاكرة، ولم تعد غريبة عني، ولم أعد غريباً عنها. وفي كل مرة كنت أتجول في شوارع إحداها، كان المتخيل الذي اشتغل عليه في النص، يتفاعل مع الواقعي المعاش، بما ينطوي عليه من تفاصيل غنية، وينتج تعاونهما سرداً يحمل تفاصيلهما في صورة جديدة. > يقول الفلسطيني، «اللي بيزور حيفا بيطلع منها مجنون بلا عقل». كيف كان جنون شخوص «مصائر»، كأم جميل، ومحمود دهمان، وجنونك أنت بها؟ - حيفا هي الحاضنة الثقافية للفلسطينيين الباقين في وطنهم. ومنها انطلقت أسماء كبيرة مهمة في الحياة الثقافية والسياسية الفلسطينية. وقد ارتبط بها أبناء النخبة العربية وارتبطت بهم. حين تذكر حيفا، يحضر إميل حبيبي بمتشائله، وإميل توما مؤرخاً، وتوفيق طوبي بقيادته الواعية، وغسان كنفاني بأعماله، خصوصاً «عائد إلى حيفا»، وسميح القاسم ومحمود درويش بأشعارهما، وعلي عاشور وسلمان ناطور وعشرات المثقفين الآخرين، سواء من أبنائها، أو الذين استوطنوها ثقافياً. مع حيفا تحضر دور النشر، ومعارض الكتب، والمسارح، والفرق الفنية، وغيرها. حيفا هي جبل الكرمل الذي يجعلها واحدة من أجمل المدن على ساحل المتوسط. وهي حدائق البهائيين، ووادي الصليب، ووادي النسناس، والحليصة، وكل المناطق العربية التي تشكل بمجملها لوحة الماضي الذي ما زال حاضراً بقوة على ملامحها. وفي الرواية، قال وليد دهمان، الذي أدهشه كل ما في حيفا، إن المدينة «جنَّنت ثلاثة أرباع الفلسطينيين». وردت عليه أم جميل قائلة أن «المجنون هوّ إلي بِدَشِّر بلده وبهاجر يا بنيَّ». وإذا كان للقدس التاريخ، والسور، والمعمار الجميل المتنوع، والأنبياء، وليافا قلعتها الآسرة وشاطئها، وللمجدل عسقلان سلطة مسقط الرأس على ذاكرتي، ولعكا أزقتها القديمة النائمة في حضن سورها الأشهر، فلحيفا الجنون كله. > مسيرة القضية الفلسطينية وما تتعرض له، والإشارة إلى النكبة والهولوكست في عنوان واحد. هل يعني هذا أن قضية فلسطين أصبحت هولوكوست الفلسطيين والعرب؟ - «كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، عنوان فرضته ضرورات فنية درامية. فالنص بحكاياته الأربع، محمول على قالب الكونشرتو أولاً. وهو، أي العنوان، مؤشر إلى ما تثيره الحركة الرابعة للكونشرتو من «جدل» حول المحرقة ووجود متحف لضحاياها في القدس، يقع على بعد ثلاثة كيلومترات مما تبقى من دير ياسين، حيث وقعت المذبحة التي ارتكبتها منظمتا «أرغون» و «شتيرن» في 9 نيسان (أبريل) 1948، وصارت البوابة التي خرجت منها النكبة. العنوان يحض على التفكير، بينما النص الذي يشرحه، يثير جدلاً بين تفهم الفلسطيني عذابات اليهود، وبين رفضه احتلال أرضه، وتبرير المشروع الصهيوني الاستعماري لبلاده، بذريعة المحرقة وعذابات اليهود. > الرواية ملأى بالحنين، بخاصة في الحركة الأولى والثانية، ألم يكتب التهجير سردياً بعد، بما يتوازى ومأساته؟ - الرواية تبدو في بعض مفاصلها، مُرَّة وأكثر من حزينة، لمرارة النكبة نفسها، التي تتوالد في حياة الفلسطينيين منذ أكثر من 66 عاماً. وهي التي جعلت حياة الفلسطينيين منافي ومهاجر. لهذا، اتخذت الرواية من «الشتات» ثيمة رئيسية لها يقارب مدلولها المعني الكامن في عنوانها. في «مصائر»، عمدتُ إلى ما أطلق عليه فيصل دراج، «بلاغة الحنين»، التي رسمت، هذه المرة، القضية في أبعادها كلها، لكني حرصت على إبعادها عن سطوة النوستالجيا والميلودراما، وتنقيتها من الموعظة، وتجنيبها الخطابة المحكومة لمعايير أيديولوجية. أما السردية الفلسطينية، فلم تكن بعيدة أبداً عن النكبة والتهجير واللجوء والمنافي. لكن أشكال تناولها تباينت، وكذلك ثيماتها وأساليبها، تباين التجارب الفردية لسارديها. ما يقال من أن لكل فلسطيني حكاية، صحيح، لكن لكل واحدة من هذه الحكايات أو أكثر، سارد مختلف مثلها. > الرواية داخل الرواية، وكتابة جنين روايتها داخل العمل الأصلي. كيف ترى ذلك؟ وهل رواية جنين لم تكتب بعد؟ - في «مصائر»، حكايات تحيل إلى بعضها. جدارية متجاورة بتعبير الروائي والناقد طارق إمام، كل منها يحيل إلى الآخر. هكذا انطوت حكاية جنين على حكايات: فهي تروي سيرة محمود دهمان وعائلته التي هي أحد أفرادها في الواقع. ثم سيرته المتخيلة التي تكتبها بالتداخل مع سيرته الحقيقية تحت العنوان المجازي «فلسطيني تيس». ثم هناك روايتها عن حياتها مع باسم التي هي صورة مصغرة لحياة عائلة من «فلسطينيي 48»، تعيش على أرض فلسطينية في دولة إسرائيلية. سردية جنين تناولت هذا «الانتماء» الغريب المتناقض، وأفهمتنا أن الحكايات الفلسطينية المنفردة، التي يحمل كل منها سمات صاحبه، هي حكايات متصلة ومتداخلة ومتشابكة أيضاً. > القدس ذلك الحلم العصي على التحقق، كيف تراها؟ - أراها بعيني وليد دهمان: قيم معمارية حضارية جمالية، رتَّبها التاريخ لتكون عاصمة للآلهة والأنبياء والملائكة، لكنه حجز للشياطين أماكن كثيرة فيها، فصارت ملتقى الغزوات التي لم تنته. أحبَّها الجميع حتى أسالوا الدم من صخورها وأبكوا حجارتها. القدس هي المدينة التي كان كلما أحاط بها من حب سبباً في شقائها عبر العصور. سواء ما جاءت به القداسة، أو الأساطير، أو الخرافة، أو حقائق التاريخ الذي يغلفها مثل سورها العظيم. القدس ربما تكون المدينة التي حين تنتهي من التجوال فيها تنام مع أنبيائها، وتحلم بأنك لم تزل تتجول في شوارعها العتيقة. وتصحو باكراً لتتفرج عليك وأنت فيها. لأن للقدس نكهة أخرى حين تكون أنت فيها. تتمشى في خان الزيت وأنت تغني: يا قدس، يا مدينة الصلاة أصلي، ثم تستعد لجولة جديدة من الصراع، إذ ينتظرك جنود محتلون، مدججون بكل أنواع الحقد والكراهية. > وصلت من الرواية الفلسطينية إلى القائمة القصيرة للبوكر روايتان، بما يعد نصراً كبيراً لها. فهل تمر الرواية الفلسطينية اليوم بصحوة، أم إن النقاد والجوائز لم ينصفوها من قبل؟ - الصحوة شملت الجميع. فثمة «حراك روائي» في كل البلاد العربية التي أنتجت في السنوات العشر الأخيرة، مئات الروايات، ولم تكن الجوائز سوى واحدة من بواعثها. لقد رافقت هذه الصحوة، تغيرات هائلة في المنطقة العربية نفسها، وتطور متسارع في وسائل التواصل الاجتماعي، أدى إلى تخفيف سلطة الروائي المنفرد - الهَرَم، على السرد، لمصلحة عدد كبير من الروائيين الجدد. الرواية الفلسطينية شهدت أيضاً تغيرات، ومرت بمراحل، منذ تربع الثلاثي جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني، وإميل حبيبي على عرشها. تمّ استيعاب المخزون الهائل والمدهش الذي جاؤوا به، فتحقق للرواية ما طمحت إليه من الارتقاء إلى مستوى تجاوزت فيه، أو بعضها على الأقل، أنماطها التقليدية التي سيطر عليها خطاب سياسي وأيديولوجي انفعالي، لم يمنح النص بُعدَه التأملي في الواقع وما وراء الواقع. ظهر ذلك مع سحر خليفة، وتطور مع حسين البرغوثي، ثم عارف حسيني، وأكرم مسلم، ومحمود شقير، وربعي المدهون وأنور حامد، وحسن حميد، وليلى الأطرش، وسوزان أبو الهوى، وآخرين وأخريات، ساهم كل من موقعه وقدراته، في دفع الرواية الفلسطينية إلى مكانتها التي نراها اليوم. > هل يمكن أن نعتبر «مصائر» جزءاً ثانياً من ثلاثية كان أولها «السيدة من تل أبيب»؟ - «مصائر» تمثل مرحلة أخرى في سياق مشروعي الثقافي. لهذا، «استدعيت» وليد دهمان من «السيدة من تل أبيب»، وكذلك والدته، ليواصلا دورهما فيها، وإن في ظروف أخرى. لم يحدث هذا مصادفة، بل خططت لأن يتابع وليد رحلته في طريقه إلى مرحلة ثالثة، لم تتشكل ملامحها. لهذا، يخرج هو وزوجته في نهاية النص، بأسئلة كبيرة، تفتح على نص لم يكتب بعد. > كيف ترى الكتابة؟ وهل لها طقوس عندك؟ - لا أحتمل التقيد بأي طقوس ولا أقوى على ذلك. أكتب في أي مكان وكل مكان، ما يخطر لي من ملاحظات عامة، أكتب جملاً منفردة، صوراً، لقطات. كثيراً ما استخدم الهاتف الجوال لالتقاط مشهد يتحول لاحقاً إلى نص. لكني أكتب نصوصي الكاملة في مكان شبه منعزل في البيت. كل وقت متوافر، يمكن أن يصلح للكتابة وقد لا يصلح. أكتب عندما تبدأ شخصياتي في الظهور، أو تسعى إلى متابعة حياتها داخل النص. > الآخر ونحن، الغرب والشرق، تلك الجدلية الملغزة كيف تراها، خصوصاً أن الفلسطيني إدوارد سعيد تناولها في كتابه «الاستشراق»؟ - هذا سؤال كبير، أكبر مني ومن مساحة مثل هذا الحوار. > القصص المنفصلة المتصلة التي تتلاقي عند نقطة معينة تعد سمة السينما المابعد حداثية، عند تارانتينو، وكيتانو، وكير، واي ونغ على سبيل المثال. فهل من الممكن أن نعتبر «مصائر» أقرب إلى حالة المشهدية السينمائية منها إلى الرواية الكلاسيكية؟ - تقترب تقنية كتابة المشاهد في «مصائر» كثيراً من التوليف الهارموني، فتتشارك نغمات مختلفة في تقديم لحن واحد، أو تفعل ذلك آلات مختلفة. والمشهد، كما يبدو لقارئ «مصائر»، ثلاثي الأبعاد إن جاز التعبير، يرى من خلاله، الحركة من كل جوانبها، والشخصية من داخلها وكل ما يحيط بها من مؤثرات، تدخل في سياقها، المعلومات التاريخية والجغرافية والسياسية والعلمية والسياحية والدينية، والتراثية وغيرها، ولا تكون من خارج السرد، أو زائدة عن حاجته. > مقولة جابر عصفور نحن في زمن الرواية... كيف تراها؟ - أميل إلى القول أننا في مرحلة من «فوضى إبداعية»، نتجت من طفرة في عالم الرواية، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة. حيث تجاوز جيل من الروائيين الشباب دوائر «الاحتكار» التقليدي التي ربطت الرواية في كل بلد (مصر والعراق وسورية نماذج) بأسماء محددة وقفت على قمة هرم الرواية، بنتاج راوح بين الكلاسيكية وتخوم الحداثة. ومع التطورات الكبيرة التي شهدتها المنطقة في السنوات العشر الأخيرة، والانفتاح المتزايد على العالم والاطلاع على أعماله، شهدنا ظهوراً متزايداً لرواية مختلفة وروائيين بينهم مواهب تركت بصمات مهمة على الرواية رغم حداثة تجاربها. وقد كان للجوائز الأدبية الآخذة في الازدياد، خصوصاً الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) المرموقة، وجائزة ساويرس، والشيخ زايد وغيرها، دورها الكبير في تشجيع الكتابة والنشر، وتوسيع دائرة القراءة، وربما التحريض عليها.

مشاركة :