كما عند الــعرب، كذلك عند الأوروبيين، هناك حيرة في البحث عن هوية، ولكن الفارق أن العرب عندما يبحثون عنها يخوضون حروباً، فيما الأوروبيون يتحاورون حولها في منابر البرلمان والإعلام. كل من المجموعتين تؤثر وتتأثر بالأخرى، ويبــدو أن ما يتقرر في إحداهما له أثر بالغ في الثانية. حتى في داخل كل مجموعة هناك ديناميات تتشكل راهناً، لكن نهاياتها غامضة عند العرب بفعل الحرب والصراعات المتــعددة، بينما مآلاتها عند الأوروبيين أوضح. فالحديث عن تصدع الوحدة الأوروبية لأول مرة منذ بدء العمل الأوروبي المشترك بعد منتصف القرن الفائت، بات رائجاً في ضوء تزايد أفواج الهجرة من مناطق الحروب والفقر والاضطهاد. فإذا قررت بريطانيا في استفتائها المقبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتبعتها ربما دول أخرى، فذلك سيؤدي بلا شك إلى تفكيك بنى أوروبا كما عرفناها وإلى تبعات مفعمة بالاحتمالات تمتد إلى الجوار الأوروبي، لا سيما تركيا وما وراءها. فلأن تركيا «منطقة عازلة» بين جنوبنا وأوروبا، فهذا قد يفسر انعقاد قمة أوروبية - تركية في بروكسيل. وأن تجد أوروبا نفسها في مواجهة أكثر من 5 .1 مليون مهاجر ولاجئ يعبرون أراضيها عبر تركيا وألبانيا في 2015 وحده، فهذه مشكلة تعمّق الخلافات الكثيرة القائمة أصلاً داخل الاتحاد حول الضمان الاجتماعي والعمالة والتفاوت في الثروة والحقوق. هذا وتدفق اللاجئين نحو أوروبا لم يهدأ على رغم الشتاء القاسي، إذ وصل إلى شواطئها وفقاً للأمم المتحدة نحو 136 ألفاً منذ بداية 2016. يأتي ذلك كله في أعقاب خلافات أوروبية حادة في شأن تحديات أمنية ومصيرية حول مستقبل «منطقة اليورو»، وكان أهمها حقن اليونان بأوسع عملية إنقاذ مالي في تاريخ الاتحاد للحيلولة دون انهيار الوحدة النقدية. تضاف طبعاً تحديات الإرهاب الذي عبّر عن نفسه بهجمات «داعش» في باريس وبروكسيل. وهكذا فأي مسعى يؤدي إلى تفكيك الاتحاد، أو حتى إلى إعادة صوغه (على ما تسعى بريطانيا راهناً)، ستكون له تبعات واسعة على السياسة العالمية واستقرار الإقليم الأوروبي وما وراءه. هذا هو البند الأساس على جدول أعمال مفاوضات القمة الأوروبية - التركية، لا سيما في ضوء ما يتردد عن إغلاق «الممر البلقاني» أمام الهجرة الزاحفة. فبعض دول البلقان (كرواتيا، البوسنة والهرسك، سلوفانيا، الصرب، الجبل الأسود، كوسوفو، مقدونيا، رومانيا، بلغاريا، ألبانيا، اليونان، وتركيا الأوروبية)، بالإضافة إلى النمسا ودول «مجموعة فيزاغراد» (تحالف أربع دول في وسط أوروبا هي تشيكيا وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا، تشكل لتعزيز العمل المشترك في مجالات عدة بينها الاقتصاد والطاقة والتعاون العسكري في قمة ثلاثية قبل تفكك تشيكوسلوفاكيا في 1993 في بلدة فيزاغراد الهنغارية). دول «فيزاغراد» هذه التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في 2004، تتحاور الآن والنمسا لتحسين شروط عضويتها في الاتحاد وتحديد شكل أوروبا التي ترغب فيها. وقد أثار ذلك غضب اليونان التي سحبت سفيرها من فيينا قبل ثلاثة أسابيع احتجاجاً على هذا التحرك «المنفرد» من النمسا مع تلميح إلى جوانب في تاريخ أوروبا الأسود وضرورة تجنيب الاتحاد «أفكاراً وعقليات وسياسات تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر»، في إشارة إلى مشاريع التوسع لإمبراطورية النمسا وهنغاريا آنذاك. هذه التطورات وغيرها تراكم الضغوط على قادة أوروبا إذ إن دعوة ديفيد كامرون إلى إجراء الاستفتاء فتحت الأبواب أمام تكتلات اليمين في بلاده للتعبئة لمصلحة حملة الخروج من أوروبا (بريكزيت Brixit)، وكذلك تنشيط خصوم الاتحاد في العديد من دوله. رئيس وزراء هولندا قدّر مؤخراً أن نصف سكان بلاده تقريبا يرغبون في إجراء استفتاء حول عضويتها في الاتحاد، وكذلك فعلت تشيكيا، ويرجّح أن تطالب دول أخرى في البلقان بالشيء نفسه. وقد لاحظنا خسارة حكومة سلوفاكيا الليبرالية غالبيتها في الانتخابات الأخيرة وصعود يمين متطرف نازي النزعة ممثلاً بزعيمه ماريان كوتليبا حاكم مقاطعة بانسكا بيستريكا. ويقول معلقون سلوفاك إن هذا الأخير يجعل زعيمة «الجبهة القومية» الفرنسية مارين لوبن تبدو ليبرالية يسارية لكثرة تطرفه. ومن سوء الحظ أن جلّ اليمين الأوروبي سيستفيد من الاستياء الواسع من اتحاد لا يهتم كثيراً بضرورة إجراء إصلاحات مطلوبة في هيكله وإدارته. والآن مع تزايد أعداد اللاجئين العابرين حدوده يومياً، هناك فرصة سانحة لخصوم الاتحاد لكسب الرأي العام حيث يُخشى أن تميل نتائج الاستفتاءات المختلفة إلى مصلتحهم. فإذا صوتت بريطانيا للخروج من الاتحاد ولحقت بها هولندا ودول أوروبية صغيرة أخرى وبعض دول البلقان، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى تصدّع حتمي في هيكله. ولا شك في أن هكذا تطوراً سيكون له الأثر الكبير في مسار التجارة العالمية والأسواق المالية والاستقرار في منطقة البلقان وتركيا التي تواجه راهناً مشاكلها الإثنية الحادة. وكرد فعل فوري على هذه الديناميات الطارئة تأثرت العملات مباشرة وهبط سعر الإسترليني مثلاً إلى أدنى سعرٍ له خلال سبع سنوات. لكن إذا جاءت نتائج الاستفتاء في بريطانيا لمصلحة البقاء مع تحسين شروط العضوية كما يطلب كامرون، فهذا سيؤدي إلى تأسيس علاقة جديدة مع الاتحاد، وهكذا ستفعل الدول الأخرى المطالبة بالتغيير. والمعروف أن الاتحاد يعمل وفق نمطين من الاتفاقيات ضمن إطاره المكون من 28 دولة، الأول هو دول كتلة اليورو الـ 19 والثاني دول اتفاقية شنغن الـ 26. المناقشة الجارية في بريطانيا مثلاً ليست جديدة وبخاصة عند المحافظين، بل تعود إلى سنوات عهد مارغريت ثاتشر. لكنها وصلت الآن إلى نقطة الانفجار، حيث أن نحو نصف أعضاء برلمانيي المحافظين وستة أعضاء من حكومة كامرون ورئيس بلدية لندن بوريس جونسون يقودون حملة الانفصال عن أوروبا. ألمانيا وفرنسا والصين وحتى الولايات المتحدة تفضل أن تبقى بريطانيا في الاتحاد وإجراء الإصلاحات المطلوبة، لأن خروجها سيفقدها مكانتها الراهنة دولياً كما سيعرضها للتفكك ورؤية اسكوتلندا كأول أقاليم مملكتها المتحدة تخطو نحو الانفصال وتعلن انضمامها كدولة مستقلة إلى... الاتحاد الأوروبي. * كاتب وصحافي سوري
مشاركة :