في الحوار التالي ضمن فقرة ثلاثة أسئلة يتحدث أمين السعيد، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس عن مسار إصلاح مدونة الأسرة وعن أهمية هذا القرار؟ ماهو الدافع في نظركم وراء قرار مراجعة مدونة الأسرة؟ يكتسي موضوع إصلاح مدونة الأسرة أهمية قصوى سواء على المستويين الوطني أو الخارجي، خاصة وأن مدونة الأسرة مرتبطة بواحدة من أهم الاتفاقيات الدولية وهي إتفاقية مناهضة التمييز ضد المرأة التي صادق عليها المغرب ورفع بعض تحفظاته عليها في العقد الأخير. وكانت اللجنة الدولية المعنية بالقضاء على التمييز العنصري وجهت العديد من الملاحظات المطبوعة بنفس إنتقادي إلى المغرب؛ وهي ملاحظات تقلل من الورش الإصلاحي الذي قام به المغرب، وتوصيات تتكرر بإستمرار سواء داخل اللجان الدولية غير التعاقدية أو داخل الاستعراض الدوري الشامل الذي تشرف عليه الأمم المتحدة. بالموازاة مع ذلك، هناك حاجة ملحة لمراجعة مدونة الأسرة نظرا للتغرات والشوائب التي ظهرت منذ سنة 2004، حيث هناك مجموعة من الإشكاليات التي يتعين أخذها بعين الاعتبار خاصة مع التحولات الجديدة التي عرفها المجتمع المغربي في العقد الأخير. في هذا الإطار، سبق وأن نبهت المؤسسة الملكية إلى إعادة النظر في مدونة الأسرة من خلال الخطاب الملكي لعيد العرش في سنة 2022. وبعد أكثر من سنة، عمل جلالة الملك على إسناد الإشراف الرئيسي على هذا الموضوع إلى رئاسة الحكومة وتحويله من مشروع قانون عادي تدبره وزارة العدل إلى مشروع مجتمعي منبثق عن مشاركة عمومية واسعة. ومن هذا المنطلق، أعادت الرسالة الملكية التذكير بتسريع النقاش والحوار العمومي الجاد بخصوص إصلاح مدونة الأسرة، وذلك من خلال الرسالة الملكية التي وجهت في نهاية شتنبر من سنة 2023، إلى رئيس الحكومة وحثه على الاشتغال بمقاربة تشاركية، من خلال إشراك وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر للصلاحيات القانونية والقضائية لهذه المؤسسات. كما دعت المؤسسة الملكية المؤسسات المذكورة إلى أن تشرك بشكل وثيق في هذا الإصلاح الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين. ويلاحظ أن جلالة الملك وجه رسالة مكتوبة، حيث يمكن للمؤسسة الملكية أن تسلك ٱلية الخطابات الكتابية التي قد توجه إلى الأمة أو الحكومة أو البرلمان أو الجهات الحكومية وغير الحكومية أو الدول أو جميعهم، وهي رسالة تتضمن التوجهات والاختيارات والآراء الملكية، بخلاف الخطب الملكية المستندة إلى الفصل 52 من الدستور التي لا يتلوها نقاش داخل غرفتي البرلمان. ماهي ابرز الإصلاحات التي ينبغي القيام بها على مستوى المدونة؟ كما سبقت الإشارة، التطبيق القضائي كشف عن عدد من الاختلالات الكبيرة التي تعاني منها مدونة الأسرة، لعل أهمها: إتساع ظاهرة الطلاق بشكل مهول ومخيف مقابل العزوف الكبير عن الزواج، بالإضافة إلى الثغرات القانونية الكبيرة، مثل ثبوت الزوجية وزواج القاصرات وزواج الحاضنة وضعف وهشاشة مؤسسة الصلح، واثبات النسب ومشكلة النفقة بالنسبة للمعسر... ومن هذا المنطلق، يتضح بشكل جلي أن مدونة الأسرة لسنة 2004 غير متناغمة مع دستور 2011 وينبغى أن تواكب القوانين الحديثة التي صدرت في العقد الأخير. لاشك، أن الاجتهاد القضائي في المغرب، راكم تجربة وخبرة غنية فيما يتعلق بكل المشاكل والصعوبات التي تواجه مدونة الأسرة، حيث يتعين الاستفادة من مختلف القرارات الاجتهادية التي صدرت في هذا المنحى، دون إهمال كذلك، الملاحظات والتوصيات والاقتراحات التي تقدمها مختلف هيئات المهن القانونية (المحاماة، العدول، المفوضين، الموثقين) التي تعيش وتلامس موضوع الأسرة بشكل يومي من خلال الملفات والقضايات التي تشتغل حولها. يمكن أيضا، الاستفادة من الرصيد المعرفي للفقه الجامعي بمختلف تصوراته خاصة في إشكالية مرجعية وروح وفلسفة الاصلاح القادم ، وهي إشكالية خطيرة يمكن أن تواجه مستقبل إصلاح منظومة الأسرة بشكل عام، ذلك أن الفقه الجامعي المغربي، يمكنه أن يساهم في توفير فرشة نظرية وقاعدة علمية لتقريب وجهات النظر حول مرجعية وروح وفلسفة الاصلاح القادم لتفادي تكرار (واقعة مسيرة الرباط) و (واقعة مسيرة الدارالبيضاء) التي كادت أن تقسم العمود الفقري للمجتمع المغربي، لولا التحكيم الملكي الذي عمل رأب الصدع والتخفيف من الخلاف بين التوجهين. جلالة الملك أكد على ضرورة الالتزام بمقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المغربي في تطوير مدونة الأسرة، وفي نفس الوقت الاعتماد على الاجتهاد المنفتح. كيف يمكن في نظركم التوفيق بين هذين العنصرين؟ التفكير في إصلاح مدونة الأسرة، يجب أن لا يعود إلى مرحلة قبل سنة 2004، ويستلزم الاستمرار في القضايا التي تم التوافق حولها بعد صدور مدونة الأسرة لسنة 2004، بالإضافة إلى أن الإصلاح القادم مطالب بتقديم إقتراحات تجيب عن المشاكل المتوافق حولها، خاصة ذات الطبيعة المسطرية والاجرائية، وفي المقابل من ذلك، الحرص على التناغم واالتطابق مع دستور 2011، بإعتباره أسمى وأعلى وثيقة قانونية في النظام القانوني المغربي. بالموازاة مع ذلك، تقديم أجوبة حول الملائمة مع الجانب الاتفاقي الدولي ( إتفاقية التمييز ضد المرأة) مع الحفاظ في ذات الوقت، على خصوصيات ومرجعيات الأسرة المغربية. من المؤكد، أن الإصلاح القادم، سيعرف توترا بين التوجه "المحافظ" و التوجه "التقدمي" وهي توترات طبيعية وعادية، تعكس الاختلاف الفكري والثقافي داخل المجتمع المغربي وداخل مكوناته السياسية والمدنية، إلا أن النظام السياسي في المغرب، راكم تجربة قوية، خاصة خلال الحوار والنقاش العمومي الذي واكب الاصلاح الدستوري لسنة 2011، حيث تلقت اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور العديد والكثير من المذكرات الحزبية والنقابية والمدنية والتي تشكل في جوهرها مطالب مختلفة ومتناقضة تجر في حمولتها التوترات المجتمعية بين تيار يمكن مجازا تصنيفه بالتيار التقدمي في مقابل التيار المحافظ. ومن هذا المنطلق، وخلال المدة الزمنية المحددة في ستة أشهر لتلقي مختلف الاراء والتصورات والتوصيات، سيتم رفع مختلف الأراء إلى المؤسسة الملكية، نظرا للمكانة الرئيسية التي تحتلها إمارة المؤمنين في علاقتها مع مدونة الاسرة. وفي ظل هذا التمرين الديمقراطي المبني على توسيع دائرة النقاش والحوار العمومي التشاركي الجاد بخصوص إصلاح منظومة الأسرة، سيواجه البرلمان تحديا خطيرا في هذه الولاية التسريعية، بإعتباره ممثلا للأمة وصاحب الاختصاص الدستوري في تقديم التعديلات والتصويت عليها والموافقة عليها، مع الأخذ بعين الاعتبار ضغط الشارع وتأثير جمعيات المجتمع المدني وتوصيات المنتظم الدولي والتوجهيات الملكية ذات الحمولة التحكيمية بإعتبار جلالة الملك الحكم الاسمى بين مؤسساتها.
مشاركة :