الرئيس السابق للمؤسسة الفيدرالية الأمريكية للتأمين على الودائع وأحد كبار مستشاري مركز الاستقرار المالي يقولون إن الأشياء الجيدة في الحياة مجانية، قد يكون هذا صحيحاً بالنسبة لتمشيةٍ على الشاطئ أو نزهةٍ في الحديقة، لكن هذا لا ينطبق على المال. لقد أبقى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأموال مجانية لمدة 14 عاماً تقريباً تحت مسمى تحفيز الاقتصاد، وتميزت هذه الفترة من «سياسة الفائدة الصفرية»، بالنمو الفاتر، وزيادة تركزات الأسواق وانخفاض الإنتاجية، واتساع فجوة التفاوت في الثروة. والآن بعد أن أصبح الاحتياطي الفيدرالي يتبنى سياسة «ارتفاع أسعار الفائدة الأعلى لفترة أطول» لمكافحة التضخم، فسيكون هناك حاجة إلى إجراء تعديلات مؤلمة في الاقتصاد لمواجهة ارتفاع تكاليف الاقتراض، لكن علينا مواصلة الالتزام بنفس المسار، ففي نهاية المطاف، سيقودنا ذلك إلى اقتصاد أكثر عدالة وأعلى إنتاجية ومرونة، حيث تعزز سياسة الفائدة الصفرية النشاط الاستهلاكي والاستثمارات الرأسمالية المثمرة من خلال خفض تكلفة الاقتراض للشركات والمستهلكين على حد سواء، غير أن هذه النظرية لم تثبت عملياً، إذ وجد الاقتصاديون صعوبة في الربط بين انخفاض أسعار الفائدة والنمو الاقتصادي. وهذا الأمر يتسق مع التجربة الأمريكية، ولنأخذ على سبيل المثال سنوات «الازدهار» في الفترة من 1982 إلى 1990 والفترة من 1991 إلى 2001، عندما كان نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بمعدل 4% يعد اعتيادياً، مقارنة بمعدل معتاد بحدود 2 % «لسياسة الفائدة الصفرية». وفي أغلب سنوات الازدهار تلك، تجاوزت أسعار الفائدة القصيرة والطويلة الأجل المستويات التي نراها اليوم بكثير، وقد واصل الأفراد والشركات الاقتراض، مع انتعاش الاقتصاد. إن الأموال المجانية قد تؤدي إلى تقويض دعائم النمو من خلال جعل الاقتصاد أقل كفاءة. وكلما زادت تكاليف التمويل، كان توزيعها أكثر انضباطاً. وإذا كان الاقتراض غير مكلف بالمرة، فإن الأموال ستتوجه إلى كل أنواع الأنشطة غير المنتجة، حيث يتدفق المال إلى المضاربات المنتشرة والإقبال الجنوني على أسهم العملات المشفرة والميمز (ميمات الإنترنت). ويتدفق المال أيضاً إلى الشركات الميتة-الحية المثقلة بالديون من مستثمرين عشوائيين يبحثون عن أي عائد مرض، الأمر الذي يضر بالمنافسة بسبب زيادة تركز النشاط في أيدي شركات محدودة. وتظهر الأبحاث أن الشركات الأكبر حجماً تستفيد بشكل غير عادل من معدلات الفائدة المنخفضة، والتي تستخدمها لإجراء عمليات الاستحواذ، وغيرها من الاستثمارات التي تزيد من هيمنتها على السوق. ومع نمو قوتها السوقية، فإن هذه الشركات تفقد المحفزات للمحافظة على مرونة الأداء والقدرة على المنافسة، في ظل تراجع منافسيها الأصغر حجماً عنها بكثير. إنني أؤيد بشدة التطبيق الصارم لإجراءات مكافحة الاحتكار في وجه السلوكيات التي تعوق المنافسة، غير أن تركز السوق في أيدي قلة من الشركات، والذي يثير قلق إدارة بايدن اليوم، ربما يكون مرتبطاً بانخفاض معدلات الفائدة بقدر ارتباطه بسوء سلوك الشركات. وتؤدي الأموال المجانية كذلك إلى تفاقم ظاهرة سوء توزيع الثروة، وهو ما يضر باقتصاد مثل اقتصاد الولايات المتحدة، والذي يعتمد على القوة الاستهلاكية للطبقة المتوسطة لتحقيق الازدهار، بينما يؤدي تركيز الثروة في أيدي قلة من الناس إلى تقليص القوة الشرائية للبقية. ولم تفد سياسة الفائدة الصفرية كثيراً في تعزيز النمو الحقيقي للأجور، لكنها فعلت الكثير والكثير في تعزيز أسعار الأصول المملوكة في الغالب للأغنياء. وكان هذا جيداً بصفة خاصة بالنسبة للأسهم، حيث أصبحت أرباحها المستقبلية المتوقعة جذابة بدرجة معقولة مقارنة بعوائد سندات الخزانة المنخفضة للغاية. وفي حين يمتلك أكثر من نصف الأسر بعض الأسهم بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن 86 % من هذه الأسهم تعود ملكيتها للشريحة الأغنى التي تمثل 10 % من السكان. كما ظلت الأسر تمتع بمعدل فوائد منخفض للغاية على الرهن العقاري على نطاق واسع، حيث أدى ارتفاع أسعار المنازل والقدرة على إعادة التمويل إلى إثراء الملايين من الأسر التي كانت تمتلك منازل بالفعل، لكن مع ملاحظة أن تكاليف الإيجار قد ارتفعت أيضاً، كما أدى التضخم الشديد في أسعار المنازل إلى أن أصبحت إمكانية اقتناء منزل خاص بعيدة أكثر عن متناول المستأجرين. وتساهم الأموال المجانية في عدم الاستقرار المالي، ما يؤدي إلى خطر وقوع الأزمات عندما يلوح التضخم برأسه القبيح حتماً في وقت ما، ومن ثم يتعين على الاحتياطي الفيدرالي تشديد سياساته. كما تشجع هذه الأموال الإفراط في الاقتراض، كما تحفز على المخاطرة والمضاربة بين المستثمرين الباحثين عن العائد. ومع ارتفاع أسعار الفائدة، تنفجر الفقاعات، ويتخلف المقترضون عن السداد. وحتى الأصول الآمنة ذات العائد المنخفض تفقد قيمتها السوقية. وتتزايد المخاطر المحتملة من ثغرات النظام المالي عندما يكون هناك غياب للتقنين والشفافية. لقد نمت الصناديق الخاصة بصورة مفرطة، إذ تمتلك حالياً أصولاً بقيمة 21 تريليون دولار، وذلك وفقاً للجنة الأوراق المالية والبورصات، حيث جرى إغراء المستثمرين، الذين يتجنبون المخاطرة عادةً، مثل شركات التأمين وصناديق التقاعد، بالعوائد المرتفعة التي تدرها الأعمال عالية الاستدانة، ولكن هذا النموذج لا يكون مجدياً عندما ترتفع تكلفة رأس المال. ومن الحكمة من جانب الاحتياطي الفيدرالي التوقف لمنح نظامنا المالي الوقت الكافي للتكيف، حيث إن ارتفاع أسعار الفائدة سيساعد اقتصادنا، ولكن الأزمة المالية يمكن أن تدمره. وبمجرد اجتياز هذا التحول، فإنه يتعين على الاحتياطي الفيدرالي إعادة تقييم قناعاته بأن السعي الحثيث إلى تحقيق معدل تضخم لا يتجاوز 2 % يفيد الاقتصاد، حيث إن أي مستوى للتضخم يؤدي فعلياً إلى تآكل الأجور الحقيقية، في حين تفضي الأموال المجانية إلى انخفاض الإنتاجية وتراجع النمو المستدام. ومن الأفضل أن نتخلى عن سياسة سياسة الفائدة الصفرية إلى الأبد، ونعتمد بشكل أقل على محافظي البنوك المركزية لإدارة اقتصاداتنا في المستقبل. فاستناداً إلى التاريخ والأبحاث والمنطق السليم، سنكون حينها في وضع أفضل. كلمات دالة: FT طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :