لا يمكن فهم ما يحدث اليوم من علاقة متشابكة ومعقدة تجعل أعتى وأميز العقول الاقتصادية في حيرة من أمرها، إلا بفهم العلاقة بين أسعار الفائدة والسندات، فعادة ما يحاول مستثمرو السندات، مثل جميع المستثمرين، الحصول على أفضل عائد ممكن، ولتحقيق هذا الهدف، عليهم مراقبة تكاليف الاقتراض المتقلبة التي ترتبط بمعدلات الفائدة، لذا تتحرك الأسعار في الاتجاه المعاكس للفائدة، خاصة تلك السندات المعروف بالصفرية التي لا يدفع في مقابلها فائدة منتظمة، لكن بدلا من ذلك يتم تداولها بخصم كبير عن القيمة في تاريخ الاستحقاق، ما يحقق ربحا عند الاستحقاق، فإذا تم شراؤها عند سعر سوقي أقل من قيمة الاستحقاق، فإنه في الأغلب ما يتم تحقيق الربح عند استرداد السند بقيمته الاسمية الكاملة، وهي تسمى بالسندات الصفرية، لأن عائداتها تعتمد على سعر الشراء، والقيمة الاسمية، والوقت المتبقي حتى تاريخ الاستحقاق، فإذا ارتفعت أسعار الفائدة عموما، فإن السندات ذات القسيمة الصفرية التي يبلغ عائدها 3 في المائة ستكون أقل جاذبية بكثير، فمن يبقى مع عائد بنسبة 3 في المائة بينما يمكنه الحصول على 5 في المائة، أو أكثر، لهذا يرغب عديد من أصحاب هذا النوع من السندات في التخلص مما بحوزتهم للفوز بالعوائد الجديدة، لكن ذلك لن يتحقق لهم طالما أن أسعار سنداتهم عند مستويات غير مشجعة، لتحقيق التوازن تتجه الأسعار ذات الصفرية لمطابقة العائد نفسه الناتج عن أسعار الفائدة السائدة. وفي هذه الحال، يجب أن ينخفض سعر السند، وهذا ما حدث خلال الأشهر الماضية حيث شهدت -ولا تزال تشهد- الأسعار اضطرابات واسعة، إذ تراجعت أسعار سندات المملكة المتحدة لأجل خمسة أعوام بأكبر قدر منذ 1992، كما تشهد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عامين أطول سلسلة خسائر متتالية منذ 1976 على الأقل، وسط تراجعها لمدة 12 يوما على التوالي، وهناك قلق متزايد من أن أسواق السندات الحكومية تسير نحو أسوأ أداء سنوي منذ 1949، المشكلة أنه مع كل هذه الاضطرابات فإن صندوق النقد الدولي يحث الجهات التنظيمية على تشديد تدقيقها في التهديدات الناجمة عن ارتفاع عائدات السندات، حيث يؤدي الارتفاع المستمر في تكاليف الاقتراض العالمية إلى "زيادة الأخطار" في الأسواق المالية، وفي هذا يقول مدير الأسواق النقدية ورأس المال في الصندوق: إن التحركات الكبيرة والسريعة للغاية، يمكن أن تؤدي إلى عدم الاستقرار، لأن المشاركين في السوق يتعين عليهم إعادة تموضعهم، وهناك مسرعات في النظام يمكن أن تبدأ. تأتي هذه التصريحات بعد بيانات قوية في سوق الوظائف الأمريكية أثارت احتمال بقاء أسعار الفائدة القياسية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي مرتفعة فترة ممتدة من الزمن. وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا، يرى أن وتيرة انخفاض أسعار السندات مذهلة بالمعايير التاريخية، وأن انخفاضها يسلط الضوء على سلوك المستثمرين غير الأمريكيين، فهناك الخوف من أن يبيع المستثمرون اليابانيون سندات الخزانة لشراء أصول الين إذا سمح بنك اليابان بعائد السندات لأجل عشرة أعوام بالارتفاع فوق 1 في المائة، كما أن الصينيين يقللون من مشترياتهم من سندات الخزانة الأمريكية، إما بسبب التوترات الجيوسياسية وإما بالضغوط المالية في الداخل. ويبدو أن بيانات وزارة الخزانة بشأن الأموال الدولية تدعم ذلك: فقد انخفضت الممتلكات الصينية من 939 إلى 821 مليار دولار خلال العام الماضي. ونلحظ أن النقطة الأكثر أهمية هي أنه لا أحد يعرف على وجه اليقين، لأن البيانات مبهمة إلى حد خطير، وبالتالي، فإن الأسواق اليوم تحاكي نمط الأخطار لـ2007، حيث إن النظام المترابط معرض بشكل كبير للتطورات في زاوية غامضة وغير مفهومة من التمويل - لكن بدلا من الرهن العقاري الذي يتسم بعدم الملاءة، فإن المشكلة هي شهية بكين لسندات الخزانة، وهناك أيضا مشكلة حارس السندات bond vigilantes. وهو المصطلح الذي تمت صياغته في الثمانينيات عندما باع التجار سندات الخزانة بكمية كبيرة للاحتجاج أو الإشارة إلى عدم الرضا عن السياسات بما يؤدي إلى انخفاض أسعارها، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة ويجعل الاقتراض أكثر تكلفة بالنسبة إلى الخزانة الأمريكية، لكن كما يشير الخبراء، فمن الصعب أن يتجه الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة إذا ظل التضخم أعلى من 3 في المائة. خلاصة القول، إن الوضع شديد التعقيد، وله آثار بعيدة في الأسواق العالمية، ففي تقريره المنشور الأسبوع الماضي، يقول صندوق النقد الدولي: إن مقترضي الرهن العقاري في مواجهة أعباء سداد أعلى، ما من شأنه أن يؤدي إلى تباطؤ نشاط الإسكان ومزيد من الانحدار في أسعار المساكن، حيث انخفضت أسعار المنازل الحقيقية العالمية منذ أواخر 2022، مع قيام البنوك المركزية الكبرى بتشديد السياسة النقدية بقوة. وفي الاقتصادات المتقدمة، انخفضت أسعار المنازل الحقيقية بنسبة 8.4 في المائة في الربع الأول من 2023، في حين شهدت الأسواق الناشئة انخفاضا أقل بنحو 2.4 في المائة. وسجلت الدول التي لديها حصة كبيرة من القروض العقارية ذات الفائدة المعومة وأسعار المساكن أعلى من متوسط ما قبل الجائحة، انخفاضات تتجاوز 10 في المائة في أسعار المساكن. ونظرا إلى حجم وتركيز العقارات التجارية وارتباطاتها القوية بالنظام المالي الأوسع والاقتصاد الحقيقي، فإن الضغط في هذا القطاع يمكن أن تكون له آثار متنوعة في الاستقرار المالي، كما يؤكد التقرير أن هناك مخاوف بشأن خطر اتساع فجوة التمويل، حيث أصبحت مصادر التمويل أقل توافرا لمقترضي العقارات الذين يحتاجون إلى إعادة التمويل - أبلغت البنوك عن تشديد معايير الإقراض، وتباطأ نشاط جمع الأموال في الأسهم الخاصة، وفي الصين، يؤثر ضعف الزخم الاقتصادي، وتفاقم تراجع قطاع العقارات، والضغوط المتزايدة على تمويل الحكومات المحلية، بشكل قوي في معنويات السوق، مع تزايدت الضغوط الانكماشية، ما دفع بنك الشعب الصيني إلى خفض أسعار الفائدة، وهو أحد البنوك المركزية القليلة التي قامت بتخفيف السياسة النقدية. ومع ذلك، فإن مثل هذا التيسير وغيره من تدابير التحفيز المعلنة لم تنجح بعد في استعادة الثقة بين الشركات والمستهلكين، والأهم من ذلك، مشترو المساكن.
مشاركة :