ما زال المتابع للشأن العراقي يشعر بالحيرة، فكلما تنتهي أزمة حتى تعاود بالظهور مرة أخرى، وأحياناً على نحو أشد وأكثر تعقيداً، فالأزمات المتوالدة والمتناسلة، على الرغم من تشابهها، فإن لكلّ منها خصوصيتها أحياناً، وإذا كان الاحتلال يمثل جوهر الأزمة منذ عام 2003، فإنه جاء بعد حصار دولي وحروب لا مبرّر لها ونظام استبدادي لنحو ثلاثة عقود من الزمان. ولد نظام الاحتلال، المحاصصة الطائفية والإثنية التي من نتائجها تأسيس الميليشيات واندلاع العنف والإرهاب، الذي وجد ضالته بالفساد المالي والإداري، وهكذا كلّما كان العراق يخرج من أزمة أو يحاول الخروج منها، كانت هناك شرنقة من الأزمات تلفّه وتكاد تعصف بكيانه، وقد تكون الأزمة الراهنة اليوم في ذروتها، والتي تتمثّل في المطالبة بإجراء حزمة من الإصلاحات وعد بها رئيس الوزراء ولكن يده لا تزال مغلولة لأن نظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني لا يزال فاعلاً. والوجه الآخر للأزمة هو استمرار داعش في احتلال الموصل وأجزاء أخرى من العراق منذ 10 يونيو (حزيران) عام 2014 وحتى الآن هل سيتحقق التغيير؟ وكيف سيتم تحرير الموصل؟ وهذان سؤالان يواجهان العراق ودول الإقليم، حيث سيتوقف عليهما العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك: موضوع سوريا والعلاقة الإيرانية - الخليجية، فضلاً عن مستقبل تنظيم داعش، بل والإرهاب الدولي ككل؟ أما بخصوص القضية الأولى- الإصلاح والتغيير المنشود، فبالقدر الذي يجمع السياسيون المشاركون في العملية السياسية، على إن الإصلاح ضرورة لا غنى عنها، وأنه لا مناص لإحداث التغيير دون تحقيق عملية إصلاح شاملة وفي جميع الميادين، فإنهم في الوقت نفسه يضعون شروطاً عليها، هي أقرب إلى العراقيل التي تعترض طريقه. وإذا كان الجميع يعترفون صراحة وجهاراً نهاراً، بفشل نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، فإنهم لا يريدون مغادرتها أو التخلي عنها، لأنها ستؤدي إلى تقليص نفوذهم، ولهذا فإنهم يتشبثون بها بأسنانهم، حتى وإن كانت ألسنتهم تلهج ليل - نهار بلعنها. هل الإصلاح والتغيير الذي يطالب به الجميع سيكون مجرد نقر في السطح أم إنه حفر في العمق، إذ ما قيمة أي إصلاحات شكلية وفوقية، خصوصاً وأن التظاهرات الشعبية رفعت شعار التغيير الجذري ومساءلة الفاسدين؟ ثم ما معنى التغيير مع استمرار العملية السياسية التي أثبتت فشلها وكانت السبب الأساسي في الفساد المالي والإداري؟ وهذا الأخير أصبح مؤسسة، وهي الوجه الآخر للإرهاب والعنف، اللذين يتغذيان على مائدة الفساد المغرية والحافلة بأصناف متنوعة مما يسيل له اللعاب. والفساد والإرهاب، هما نتاج الطائفية والشحن المذهبي، وهذه الأخيرة انتعشت بعد الاحتلال وازدهرت وارتفع سعرها وكثر روّادها وأسواقها، بفعل هيمنة أمراء الطوائف واستحواذهم على المشهد السائد. وهناك ثلاث احتمالات: الأول: أن يقوم رئيس الوزراء بتعيين من يراه مناسباً من التكنوقراط كما قال، بغض النظر عن رأي الكتل السياسية. والثاني: أن يلتزم بما تقدمه له الكتل السياسية كممثلين لها أو يعبرون عن وجهات نظرها، سواء كانوا تكنوقراط مستقلين أو ينتمون إليها. والثالث: أن يعيد ترتيب بعض الوزارات على أن تستبدل الكتل السياسية وزراءها بآخرين جدد. والاحتمالات الثلاثة تصب في هدف واحد، وهو امتصاص النقمة الشعبية، وإن كان الأمر مؤقتاً، لأن إصلاحاً من هذا النوع سيبقى شكلياً، وإن الأزمة تعيد إنتاج نفسها، علماً أن التظاهرات المطالبة بالإصلاح بدأت منذ عام 2010 واستمرت على نحو متقطع، حتى اندلعت بصورة متواصلة في يوليو (تموز) عام 2015 وهي مستمرة إلى الآن ومتواصلة، ودخل عليها عنصر جديد، هو نزول جماعة مقتدى الصدر إلى الميدان بثقله الشعبي ونفوذه المعنوي ومطالبته الجريئة بالإصلاح. الأيام المقبلة ستكشف عن حقيقة التغيير في العراق، فحتى الآن، لا يوجد هدف يراد الوصول إليه وليست هناك آلية معينة يتم الركون إليها والاحتكام عندها. هل يُقصد تغيير الوزراء الفاسدين أو الفاشلين أو كليهما؟ وهل سيتم تعيين وزراء أكفاء وأفضل منهم، أم ثمة مناقلات حزبية وسياسية سيجري اعتمادها في ظل الضغوط التي يتعرض إليها رئيس الوزراء نفسه؟ وحيث تجري مطالبات بإقالته، أو تقديم استقالته من حزب الدعوة، إذا أريد الإتيان بوزارات للكفاءات خارج نطاق المحاصصة، فهو الآخر نتاج التقاسم الوظيفي والسياسي والحزبي. أما القضية الثانية - فهي تتعلق بتحرير الموصل وطرد داعش؟ فهل هناك خطة معتمدة؟ وهل كانت خطة محافظة الأنبار ومركزها الرمادي بشكل خاص ناجحة؟ وهل سيتم اعتمادها؟ ومعروف أن خططاً عسكرية عراقية وبدعم من الحشد الشعبي وقوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والمحلية وبعض رجال العشائر، قامت بتحرير صلاح الدين، وتم الحفاظ على المدينة، علماً أنه جرى تدمير بعض محال السكن وبعض الأماكن التجارية بعد تحريرها، الأمر الذي أثار السخط على الحشد الشعبي على الرغم من الدور المهم الذي قام به. ولكن ماذا عن تحرير الموصل؟ الأمريكان يقولون إن استعادتها سيكون صعباً، وحسب مجلة ديفينيس ون الأمريكية فإن معركة الموصل ستكون أكبر عملية تخوضها الولايات المتحدة في العراق، منذ انتهاء الحرب في عام 2003. وتستهدف الخطة الأمريكية تقطيع أوصال داعش، ولاسيما الطريق الذي يربط الرقة السورية بالموصل، وحسب الاستراتيجية الأمريكية، فإن داعش مثل السرطان الذي لا بد من القضاء عليه، وإلا فإنه سيستفحل ويدمر كل ما حوله من دول الإقليم ويعود بالضرر على الغرب وعلى العالم أجمع. لقد نشرت إدارة الرئيس أوباما قوات خاصة لاستهداف التنظيم وقادته، ومؤخراً قالت إنها ألقت القبض على أبو داوود سليمان داوود البكار، وقد تم تسليمه للحكومة العراقية، إضافة إلى إرسال آلاف المستشارين الذين ينخرطون في تدريب قوات عراقية تعود إلى السلطة الاتحادية وقوات بيشمركة كردية وقوات تابعة للسكان المحليين من رؤساء العشائر السنية، علماً أن هؤلاء يرفضون مشاركة قوات الحشد الشعبي، التي قال عنها رئيس الوزراء العبادي، لا أحد يستطيع منع أحد من المشاركة في تحرير جزء محتل من أراضيه. كما ترفض مجموعة تحالف القوى العراقية مشاركة الحشد الشعبي في معركة الموصل. الخطة الأمريكية هي الأخرى تعرضت إلى انتقادات أمريكية وليس من جانب بعض القوى العراقية، وفي مقدمتها قوى الحشد الشعبي، فقد قوبلت بانتقادات لاذعة من بعض الدبلوماسيين الأمريكيين وجنرالات عسكريين متقاعدين وزعماء جمهوريين ومرشحين رئاسيين سابقين، وهؤلاء جميعاً يريدون تدخلاً عسكرياً أمريكياً أكبر، من شأنه إلحاق هزيمة تكسر شوكة داعش وتحرر الموصل. وبالمقارنة ما بين الموصل والرمادي، فإن هؤلاء يؤكدون أن الأمر يحتاج إلى قوات أكبر. وبالمناسبة فسكان الموصل يصل عددهم إلى نحو مليون و700 ألف إنسان، وهي ثاني أكبر مدن العراق، وهناك حاجز طبيعي يحول دون اقتحامهما بسهولة، وهو وجود نهر دجلة، وسد الموصل يوشك على الانهيار، وهناك خوف حقيقي من احتمال حدوث ذلك، سواء بفعل طبيعي وهو أمر متوقع حسب الخبراء، أو بفعل عمل تخريبي. بعض العسكريين يميلون إلى أن العمليات العسكرية ستبدأ من أطراف الموصل، ولاسيما من تلعفر، وسيتم تحديد 13 مخرجاً، للسكان لمغادرة مدينة الموصل، حيث ستقوم قوات التحالف بعمليات جوية مع تقدم وقصف داخل المدينة. حتى الآن، العملية العسكرية طي الكتمان، وعلى الرغم من الحديث عن قرب بدء العملية، لكن هناك من يحاول، إما إيحاءً أو تمويهاً الإعلان عن عدم استكمال شروطها ومقومات نجاحها، لأن الفشل ستكون نتائجه كارثية. قد يكون عنصر المباغتة قائماً وهو أمر معروف في الحروب، ولكن هناك نوعاً من التناقض بين الخطط العراقية والأمريكية. drhussainshaban21@gmail.com
مشاركة :